Log-in
Search

استيلاد الإنسان القطيعي في المدارس والجامعات

Posted on September 09, 2015 by Tadween Editors | 0 comments



حديث مع أمارجي*


١- بصرف النظر عن تعلم القراءة والكتابة، ما الذي أحببته في المناهج الدراسية المقررة في مراحل دراستك المختلفة حتى الحصول على الثانوية؟

 

ج: لا يمكنني هنا، في ظلِّ منظومةٍ تعليميَّةٍ قسريَّة تعتمدُ الإقحامَ والحشوَ مبدأين أساسيَّين في نقل المعلومة، الحديثُ عن حُبٍّ بمعنى الشَّغف، فكلُّ إجبارٍ إنفار. وينبغي هنا التَّمييز بين مسألتي إلزاميَّة التَّعليم وقسريَّته، من جهةِ أنَّ الأولى تنطلق مِن قضيَّةٍ صحيحةٍ تماماً تتوخَّى العدالة الاجتماعيَّة، أمَّا الأخرى فخاطئة مِن أقصاها إلى أقصاها، لأنَّها تقوِّضُ وتشوِّه الكيفيَّةَ التي يُراد عبرَها تحقيق غايات المسألة الأولى. من ناحيةٍ أخرى، نحن تلقاء مناهج تفكِّر بالعَدُوِّ أكثر ممَّا تفكِّر بالإنسان، بمعنى أنَّها تغذِّي فكرة بناء الذَّات ضدَّ "الآخر- الخصم" عِوَضَ الانهمام ببناء فردانيَّة الإنسان واستقلاليَّته. هذا الانتصار للامتثاليَّة مجسَّدٌ ومرئيٌّ حتَّى على مستوى التَّصميم المعماري للمدارس، تصميمٍ أشبه ما يكون بتصميم المعتقلات. أمامَ هاتِه الصُّورة، إذن، لا يمكن الحديثُ عن حبٍّ، وإنَّما فقط عن ميلٍ، ربَّما، تجاه مقرَّرٍ دون آخر، كمقرَّرات النُّصوص الشِّعريَّة والفلسفة والتَّعبير، مع مآخذي الكبيرة عليها.

 

٢- هل ساعدت هذه المقررات في تغيير نظرتك إلى الواقع؟

 

ج: لا، على الإطلاق. وهذا أمرٌ جيِّدٌ، لأنَّ ذلك لو حصل لكان تغييراً سلبيَّاً، أو بالأصحِّ تشويهاً للموهبة الفطريَّة عندي، ولصيرورة تشكيل طريقتي الخاصَّة في التَّفكير. إنَّ نظرتي إلى الواقع، إلى الكون، وإلى الفرد قد تشكَّلت وتتشكَّل خارج الفضاء الضَّيِّق للمقرَّرات المدرسيَّة والجامعيَّة؛ وكنتُ تنبَّهتُ بالحدس، وعلى نحوٍ مُبكرٍ، إلى خطورة هذه المقرَّرات، والتي تكمن في مسخ المعرفة البشريَّة وتقديمها بصورةٍ انتقائيَّةٍ وسطحيَّة، في قوالب هزيلة الشَّكل والمضمون، مُعدَّة في الأصل بما ينسجم مع الرُّؤيا السياسيَّة، التي هي قاطنةُ ماضٍ، لا بما ينسجم مع الرُّؤيا المعرفيَّة، التي هي قاطنةُ مستقبَل. بكلمةٍ أخرى، ربَّما فتحت لي هذه المناهج خُرمَ ضوءٍ ضئيلٍ هنا أو هناك، لكنَّها حتماً لم تفتح أفقاً.

 

٣- من موقعك الحالي الآن، هل تشعر بأن تلك المقررات كانت مواكبة للتطور المعرفي والعلمي والتربوي في العالم؟

 

ج: طبعاً لا يمكن لمقرَّراتٍ تمكثُ عشرات السِّنين دون إحداث تغييرٍ جذريٍّ فيها، بل تُحَدَّث فقط على مستوى القشور، أن تكون مواكبةً للعلم الذي يقفز في كلِّ ثانيةٍ قفزاتٍ جنونيَّة يكاد العقل يحارُ حيالَها؛ وعليه فإنَّ جذر المشكلة هنا ليس في عدم مواكبة تلك المقرَّرات لذلك التَّطور، بل في أنَّها بادِّعائها تقديم نهاية المعرفة إنَّما تعرقل مسيرة العلم. إنَّ العقل المعاصرَ الذي يتأسَّس في مدارسنا، ومن ثمَّ في جامعاتنا، هو عقلٌ مطليٌّ جيِّداً ضدَّ الإشراقات (ضدَّ بكوريَّة الجنون العلميِّ والشِّعريِّ وإدهاشهما)، وبطبيعة الحال يمثِّل الدِّين والسِّياسة أجود أنواع الطِّلاءات العقليَّة. هذا التَّأسيس الخاطئ في المدارس سوف تتولَّدُ عنه بالضَّرورة، عدا عن المفرزات المجتمعيَّة الخطيرة، نتائج كارثيَّة في الجامعات، وهذا هو الحاصل فعلاً. ولا يُلامُ الطَّالبُ على ذلك إذا كان مَن يؤسِّسه بحاجةٍ إلى أن يؤسَّس، وإذا كانت الجامعة نفسُها مؤسَّسةً تكرِّسُ فكرة الخنوع العلميِّ والإتِّباع المعرفي، وتنفي وتهمِّش المفكِّر والمثقَّف الحقيقيَّين. لَمؤسفٌ حقَّاً، ونحن نتقصَّى تأسيسَ عقلٍ حرٍّ قادرٍ على أن يسابقَ نفسَه، أن نجد جامعاتنا خاوية من مفكِّرٍ حقيقيٍّ واحد. إنَّها باختصار ما يمكن أن أدعوه أمِّيَّةً جامعيَّة، وهي أخطر بكثيرٍ من أمِّيَّة القراءة والكتابة. هكذا، أنْ يصبحَ العقلُ الأكاديميُّ عقلاً اجتراريَّاً بامتياز، وأن تتحوَّلَ الجامعةُ مكاناً لاستيلاد [الإنسان القطيعيِّ]، وتفريخِ الرُّوح الجمعيِّ الخانعِ المدجَّن، عِوَضَ أن تكون مَقدِساً لميلاد [الإنسان الألوهيِّ]، وخلقِ الرُّوح المتفرِّد المتمرِّد الجموح، فهذا يعني أنَّ التعليم العالي عالٍ قَدر عُلوِّ الجهل، ومسؤولٌ مسؤوليَّة الجهل عن استلاب العقل الأعلى.

 

٤- هل تحدث هذه المقررات قطيعة مع الثقافة التقليدية أم تجاملها وتغذيها وتحافظ عليها بطريقة ما؟

 

ج: بالطبع تجاملها وتغذيها وتحافظ عليها إلى درجة التقديس، وهذا ما يجمِّدُ العقلَ العربيَّ في محبَسِ الماضي، ويقطَعُه عن بشارة العلم التي تتقصَّى مفاتيح النِّهايات لا مغاليق البدايات. هذه الصَّنميَّة الثقافيَّة هي المنبتُ الأصلُ لكلِّ فكرٍ أصوليٍّ، وثمَّة أصوليَّتان، ربَّما تتأوَّلُ إحداهما الأخرى وتغتذي بها، قد أفرزهما واقع التَّعليم هنا: أصوليَّةٌ دينيَّة، كانت تزدهر بوضوحٍ في تربةِ التَّهميش الاجتماعيِّ وتتجاهلها الدَّولة، وأصوليَّةٌ سياسيَّة كانت تصنِّعها الدَّولة على نحوٍ مُمَنهَج، والأصوليَّتان في خاتمة المطاف أنتجتا الأثرَ نفسَه: أحاديَّةً فكريَّةً تلغي الآخَر- المختلِف، وتخطِّئه، وتُعلي صوتَ الدَّمِ ومنطقَ الموت على صوت الإنسان ومنطقِ الحياة.

 

٥- هل يؤدي التعليم المستند إلى هذه المناهج دوره الحقيقي في إنشاء أجيال قادرة على الإدارة والحكم في العالم العربي؟

 

ج: لقد أشرتُ سابقاً إلى أنَّ هذا التَّعليم الذي يعتمدُ الخطابَ السُّلطويَّ والإلغائيَّ يعملُ على طمسِ فرادة الإنسان عبرَ عسكرةِ أجيالٍ كاملة وكَبتِها وتبكيتِها، وبالتَّالي كيف يمكن لأجيالٍ مُدارةٍ ومحكومة أن تكون قادرةً على الإدارة والحكم إلا ضمن الحدود التي ترسمُها السُّلطةُ لها؟ إنَّ شرطَ القدرة على الإدارة والحكم هو الإحساس بالفردانيَّة، وشرطُ الإحساس بالفردانيَّة هو الحريَّة، وما دامت قواعدُ الفردانيَّة مقوَّضة وفضاءات الحريَّة مُرتَجَّة يبقى الإبداع مستعصياً على العقل العربي، ويبقى هذا العقل غارقاً في عَطَنِ ثقافةٍ تتآكَلُ جسدَ ذاتها، ورطانةِ تاريخٍ لا يُحسِنُ قراءةَ نفسِه.

 

حوار: أسامة اسبر


 

* أمارجي شاعر سوري ومترجم عن الإيطالية، وأستاذ جامعي.

Previous Next

Comments

 

Leave a reply

This blog is moderated, your comment will need to be approved before it is shown.

Scroll to top