Log-in
Search

من صفر إلى آخر

Posted on September 21, 2013 by Tadween Editors | 2 comments

من صفر إلى آخر

(من يوميات  ناشر)

اهتزّت الجدران كلّها في العاشر من أيّار (مايو) 2012. نهضتُ عن الكنبة كما لو أنّ نابضاً دفعني. صوتٌ نشازٌ خَلْخل الجوّ، هدم جدران الطمأنينة، وألقى مزيداً من أثقال الخوف على كاهل سكان دمشق في جميع منازلهم. كان هذا انفجار القزاز، والذي كان من المحتمل أن أكون من ذراته المتطايرة لو أنني لم أعدل عن ذهابي إلى مستودع دار النشر في جرمانا في ذلك اليوم. ذلك أنني كنت أمرّ كلّ يوم في المنطقة التي حدث فيها الانفجار، وفي التوقيت نفسه تقريباً. قمت ببعض الاتصالات ـ إذ كانت خدمة الهاتف موجودة لحسن الحظ في تلك الساعة ـ ونزلتُ في ذلك اليوم المشؤوم من بيتي في الطابق الرابع، حاملاً حقيبتي المليئة بالأوراق والكتب وفواتير المعارض غير المسددة. جلست أمام المقود. عدّلت المرايا، ووضعتُ شريط موسيقى كلاسيكية وشردت قليلاً في التفكير. مرّ قربي مسلحون مسرعون ألقوا نظرة متفحصة على السيارة. شعرتُ بالخوف، أن شيئاً مريباً يرفرفُ بملايين الأجنحة المسنونة كالشفرات ويبتر شرايين الأفق. أدرتُ محرك السيارة، حمّيته قليلاً ثم انطلقت من جمعيات الزراعة، أو طلعة الزراعة، حيث كنت أسكن، عبْر نزلة الأحداث في شارع ضيّق تقضم البيوت والمخالفات أطرافه وتضيّقة بحيث لا يتسع إلا لعبور سيارة واحدة، فإذا ما مرّتْ شاحنة أو سيارة أخرى عليك أن ترجع إلى الوراء مسافة طويلة كي تفسح مجالاً، وفي طريق النزول انحدرتُ بمحاذاة سور مدرسة الأحداث، وهو سور طويل يطوّق مدرسة خاصة بالجانحين من الأحداث. كان الحائط طويلاً ومرتفعاً، مليّساً في بعض النقاط، وفي نقاط أخرى أحجار خفّاف عارية وثغور مفتوحة تتسع لدخول أو خروج شخص، وعلى الحائط معارك من نوع آخر، معارك مكتوبة بخطوط رديئة وسريعة، جمل مشطوبة كُتبت فوقها جمل أخرى. السور ملطّخ بالبقع بحيث تصعب قراءة كلّ شيء، ويبدو أنّ هجمة الغرافيتي الرديئة تحدث كلّ يوم على هذا الحائط معبّرة عن الصراع الذي يجري في بلدة قدسيا الدمشقية، التي تحيط بها الفوّهات من كل ناحية، فيما يختبئ القناصون راصدين الجهة المقابلة. كانت جمل كثيرة مطلية بحيث لا تبدو منها إلا بعض الحروف والكلمات، خُيّل لي أن اللغة تحمل بنادق وسكاكين وتلبس أقنعة واقية من الغاز، أن السمّ الذي يتقطّر من الحروف ستتجرّعه دمشق دفعة واحدة كي تنتحر قرفاً مما يحدث لها. وفي الساحة المتاخمة للسور، قبل الجادات، أو مساكن الشركس، عُثر قبل يومين على جثة رجل من أهالي البلدة طُعن بالسكاكين، على طريق المدرسة الابتدائية والإعدادية، شاهده جميع الأطفال، وكان مكتوباً على صدره العاري بصبغة رديئة: عواينيّ. في أسفل نزلة الأحداث حاحز يدقق بالسيارات، وقبل أن أصل إلى الحاجز قررت الرجوع إلى البيت، انعطفت في الشارع نفسه، فيما عيناي تتحركان كما لو أنهما تلقيان نظرة وداع على المنازل الوديعة المنكمشة من الخوف، واعتمل في ذهني وأنا أنظر من جديد إلى غابة الحروف والكلمات التي تلوّث الحائط، أنّ الحياة في هذا المكان لم تعد مجدية، وقد يُقتل المرء كأنه حشرة، أو تصيبه رصاصة طائشة، أو تسقط عليه قذيفة كما حدث لكثيرين من أهل  المنطقة، الذي لا ذنب لهم سوى أنهم يريدون أن يعيشوا حياة كريمة. صففتُ السيارة في مكانها الذي ظلَّ فارغاً لحسن الحظ،  أقفلتُ بابها وصعدتُ الدرج من جديد. ربما أعادني كسل، قرف داخلي من العمل، رغبة بالانفصال قليلاً والتأمل.

كان انفجار القزاز، الذي حدث بعد صعودي إلى المنزل بثلاثة أرباع الساعة، النافذة الأولى التي نظرتُ منها إلى جثتي. تخيّلت نفسي، كالآخرين، منصهراً بالأشلاء، متناثراً في الهويات الجسدية والمعدنية المبعثرة على تقاطيع المكان المتشظّي، فيما أوراق كتبي تحترق كلّها صانعة أفقاً من اللهب، والروائح تصدر من الكلمات التي عجزت عن افتتاح أفق للخروج من المأساة.

انفصلتُ عن الناشر الذي فيّ، عن العمليّ الذي يحلم بأن يجمع ثروة من النشر. كنتُ أشعر أن ولادة الكتاب طقس احتفاليّ مقدّس، إنجاز في وقت ازدادت فيه شراسةُ المدّ السمعي البصري في مجتمع قفز فجأة إلى الأزرار والشاشات، دون أن يعبر على جسور الكتب.

غير أن صدماتي كانت متتالية، واكتشفت، لسوء حظي أن النشر مهنة متعبة، وقد وصفها ناشر لبناني بأنها تحتاج إلى صبر أيوب وعمر نوح وكنوز قارون. وأوّل خطوة على طريق النشر في سوريا هي التعرض للسرقة التي لا تستطيع أن تفعل حيالها أي شيء، تلك التي يمارسها الدخيلون على المهنة. سرقوني في بداية عملي وعرقلوني كثيراً. حدثتْ آخر سرقة في 2011 قام بها شخص رفض أن يجيب على هواتفي المتواصلة. عثر على مظلة تحميه محتجاً بالأحداث التي تعصف بالبلاد، والتي أوجدت له مبررات كي يستخدمها مع الآخرين، كي لا يدفع لهم. هذا السارق فنان معروف في الأوساط الفنية، فعسى يصحو ضميره في يوم من الأيام.

مرة أرسلتُ كتبي إلى معارض خارجية مع ناشر سوري مشهور كروائي وناقد، وبعد أن عاد من المعارض وتم الجرد اتصلت كي أطالب بنقودي.  ظلّ يماطل إلى أن جاء عيد الفطر، ففوجئت بأنه أرسل لي حوالة بمبلغ صغير، وحين اتصلت بسكرتيرته وقلت لها إن هذا مبلغ تافه بالمقارنة مع ما يجب أن يسددوه لي قالت إنهم يرسلون في كل عيد مبلغاً معيّناً مقتطعاً من المبالغ المستحق كعيدية للناشرين الذين يقومون بتوزيع كتبهم. فما رأيكم بشخص يتفضل على الآخرين من مالهم؟ كانت المبالغ تصل إلينا مجزأة، بالقطارة، لا يمكن التعويل عليها في شيء، بينما كانوا هم يسعّرون الكتاب بشكل خيالي، ويقبضون ثمنه مرتين، ويغشّون القراء الذين يأتون إلى المعارض ويشترون الكتب رغم معاناتهم. إن لصوص الثقافة أحطّ أنواع اللصوص.

ازدهر النشر في سوريا غير أنه يفتقر للنوعية، فالأخطاء المطبعية، واستسهال الترجمة والتأليف،  وعدم اللجوء إلى مدققين خبيرين أو محكّمين، أدى إلى هبوط معايير الجودة في كثير من الكتب، فضلاً عن ذلك، كانت قرصنة الكتب مزدهرة، وثمة ناشرون يزوّرون الكتب الناجحة والمطلوبة في السوق ويجنون أرباحاً طائلة. وقد زُوِّرتْ كتب كثيرة منها رواية حيدر حيدر وليمة لأعشاب البحر، ودواوين محمود درويش وأدونيس، وروايات نجيب محفوظ وأحلام مستغانمي، وغيرها من الكتب التي كنت أراها بأم عيني تُنتج كما هي تماماً في  بعض المطابع، وحين كنت أسأل كان الجواب هو أن الدار التي طبعت الكتاب نقلت عملها إلينا. كان كثير من  الكتب التي تُطبع إعادة طباعة لكتب أو ترجمات قديمة، ولنصوص دينية متداولة أو غير معروفة، ولكتب صفراء لا قيمة لها، وتُصرف مبالغ هائلة عليها، وسرت شائعات بأن من يطبعون هذه الكتب يتلقون منحاً لطباعتها وتصدر فتاوى في معارض الكتب لشراء كتب معيّنة.

ثمة نوعان من الطباعة سائدان في سوريا: طباعة الأوفست وطباعة الريزو، التي صارت أكثر انتشاراً نظراً لرخصها ولسرعتها ولكونها تنتج أعداداً محدودة من النسخ حسب الطلب. وكان اللجوء إلى الطباعة بالريزو مرتبطاً بالوضع الاقتصادي للناشر فهي أقل تكلفة ظاهرياً، إلا أنّ مواصفاتها متدنية بالمقارنة مع الأوفست،  وتتبع أسلوب التجليد التقليدي باستخدام الغري، بدلاً من التجليد الحراري الحديث. غير أن بعض طابعي الريزو فنانون حقيقيون، إذ كانوا يختارون ورقاً جميل المنظر وخفيفاً، وينتجون كتاباً يتباهى به أي ّ رفّ. وكان من بين الخبراء في هذا المجال صديقي فؤاد اليازجي، والذي يمتلك مطبعة صغيرة في مركز دمشق في البحصة كانت ملتقى للناشرين والكتاب اليساريين الذين لا يملكون الأموال اللازمة لمنافسة الدور المدعومة التي تطبع في أفخم المطابع. إلا أنّ الفروق واضحة للعين الخبيرة، فحبر آلة الريزو فاه وثمة درجات متفاوتة للطباعة داخل الكتاب نفسه إذ ترى السطور فاهية تارة وغامقة طوراً، بينما تتكرر بعض الصفحات، وتضيع بعض الأسطر وكل هذا بحاجة إلى عين متفحصة على الدوام لإنقاذ الكتاب. وسرعان ما كان الكتاب يفرط بين اليدين. رغم هذا كانت طباعة الريزو مزدهرة، وقد لجأ إليها كثيرون بسبب الوضع المتردي لتوزيع الكتاب.

ومن الحوادث المضيئة التي جرت مرة في معرض مكتبة الأسد الدولي للنشر في سوريا سنة 2008، هو أن أحد المشائخ اخترق احتكار الدولة للرقابة ومرّ على أمكنة العرض وأشار إلى كتب كي تُمنع بحجة أنها تخدش الحياء العام، وكان بينها روايات عالمية مشهورة ذنبها الوحيد أن على غلافها صورة امرأة. وتمت مصادرتها دون عودة إلى وزارة الإعلام السورية،  مما يشير إلى أنّ الرقابة على المطبوعات تتجاوز سلطة الدولة كي تحلّ في المنظومة الدينية التي رُبّيتْ وغُذِّيَتْ على مدى عقود. 

لا يعني هذا أن الرقابة على المطبوعات متراخية. ثمة إجماع عربي على اعتبار الرقابة عموداً أساسياً للسلطة القائمة بكافة أشكالها، وتشتغل هذه الرقابة عبر مؤسسات الإعلام واتحادات الكتاب. 

كان من المستحيل نشر الكتب دون عرضها على الرقابة، وآلية الرقابة في سوريا قائمة على إرسال الكتب المؤلفة إلى اتحاد الكتاب للحصول على موافقة النشر وإبقاء الكتب الأخرى المترجمة والمحققة في وزارة الإعلام حيث يقوم بمراقبتها موظّفون مختصّون. وفيما كنت أهيئ لإصدار طبعة خاصة من الأعمال الكاملة لأدونيس في سوريا، كان عليّ أن أقدم هذه الكتب للرقابة كي أحصل على موافقة الطباعة رغم أنّها كانت تُوزّع في المكتبات طيلة عقود. وكان بينها ديوان أوراق في الريح الذي مضى على نشره أكثر من ربع قرن. ذهب هذا الكتاب إلى قارئ عضو في اتحاد الكتاب في جمعية الشعر. ظلّ الكتاب لديه أكثر من خمسة شهور وحين عاد فوجئت بأنه كتب عليه موافق على الطباعة بعد حذف القصائد التالية. صدمني غباؤه الشديد، وعدم فهمه للقصائد التي طالب بحذفها، واستخفافه بمنجز شاعر كأدونيس، وإصراره على القيام بعمل يخلو من أيّ حسّ سليم. وحين أطلعت مدير الرقابة على الموضوع عبّر عن امتعاضه مما حدث. كان شخصاً منفتحاً ومطّلعاً، حاول أن يخفف من قبضة الرقابة، وطلب مني أن أحضر الكتب كي تُراقَب في وزارة الإعلام، وأعطاني أذناً بطباعة الأعمال الكاملة على الفور. لا أملك إلا أن أشكر مدير الرقابة على عمله الذي أنساني بشاعريته وجماليته النابعة من الموقف الجريء ضيق أفق الشاعر الرقيب.

ما أن بدأت دار "بدايات" بالتحسّن على مستوى الطباعة والتوزيع حتى بدأت الحرب في سوريا. هكذا تبددت ثماني سنوات من العمل الدؤوب لتأسيس دار نشر رغم هزيمة الكتاب على كافة الأصعدة العربية، والهيمنة التي لا تُنازَع لوجبات المسموع والمرئي الجاهزة. شعرتُ بأنّ كل ما بنيته في السنوات السابقة انهار فوق رأسي، غير أنّ خسارتي بسيطة، ولا معنى لها وسط الخسارة الكبرى للوطن ولأبنائه، حيث الحرب الخاسرة تستعرُ، والبلاد تتدمر على رؤوس ساكنيها، تتدحرج في هاوية الظلمات، وسط احتقار شديد لأطفالها ونسائها وشيوخها ولامبالاة بأراملها ومهجّريها وجرحاها وقتلاها وتهميش مثقفيها ومتنوّريها وحكمائها وسجنهم وقمعهم. بيوت سوريا كلها تنزف وهناك من يسنّون حراب وشفرات ورماح الكلمات ويذبحون بعضهم بعضاً في الأفق الافتراضي وكلّ منهم يريد أن يلوّن المجال العام الجديد بدم الذبيحة.

بعد أن حدث انفجار القزاز بقليل وتسمّرنا على الشاشات لمتابعة التفاصيل سمعتُ إطلاق نار في الحيّ. كدتُ أن أقفز إلى النافذة لولا أنني تذكرت صديقاً شدّه فضول مشابه فدخلت رصاصة من أذنه وخرجت من الأخرى. بعد أن هدأ الرصاص تجرأت وألقيتُ نظرة. كانت هناك جنازة محروسة بالبنادق. كان الذين يحرسون التابوت في طريقهم إلى المقبرة رافعين البنادق في حالة تأهب وأعينهم تفتّش البلاكين والنوافذ. شعرتُ بألم شلّني. هل يُقتل في بلادي القتيل مرة أخرى؟ هل يُخشى أن يُقْتَل مرتين ولهذا يجب أن يُحْرس إلى أن يُدفن؟ ضحكتُ ضحكة عبثيّة دوّت داخل رأسي الأجوف. شعرتُ بأن أفكاري تتساقط كالشعر، وتكنسها الريح، أن كياني علامة استفهام مرتجفة لا تجرؤ أن تعرض نفسها من النافذة، وأيقنتُ أن حياتي الآن على مفارق الهبوب.

في شهر آب، سنة 2012، اتخذت قراري. وفي أحد الأيام كان عليّ أن أخرج من منزلي في قدسيا في غرب دمشق كي أذهب بسيارتي إلى جرمانا حيث يقع المستودع الذي أخزن فيه كتب دار النشر. لم أستطع أن أذهب إلا بعد ساعة لأن الطريق كان مقطوعاً وقالوا إن موكب شهيد قادم إلى المقبرة القريبة. في السيارة كنت أتجاوز الحواجز وأنظر في أفق المدينة: لا الوجوه هي الوجوه المألوفة المبتسمة، الوجوه الدمشقية الجميلة والسمحة، كوجوه جيراننا في البناية والذين فرّقتهم الأزمة فذهب كلّ منهم إلى مكان آخر كي يحمي نفسه وأبناءه من فوضى الرصاص والانفجارات. شعرتُ أن كل شيء انقلب رأساً على عقب. تغيرت الأفكار وتغيرت الصداقات، وتلبّد الجوّ بالعداوات، وحدثت الانشقاقات في كلّ مكان. وكان تجاوز الحدود واضحاً بطريقة يشيب لها شعر الرأس. لم يعد هناك شيء محترم، لم تعد هناك حساسية، انطفأت الجمرات القليلة التي كانت تدفئ أعضاء موهنة، ولم يعد هناك ما يومئ إلى أن الفجر القادم سيحضر معه الخير إلى هذه الربوع. كان صوت الطائرات يهدر في أفق المدينة، وصوت المدفعية والانفجارات لا يتوقف،  كما لو أنّ حرباً عالمية تجري، كما لو أنّ هذه القذائف تسقط على أشخاص غرباء يهاجمون الكوكب من عالم آخر، وكلما قُتل شخص منهم يولد من جديد بعد أن يعاود تجميع أجزائه ولحْم نفسه وتشغيل جهازه الداخليّ.

كان كلّ شيء مفككاً، من قبل، والنار تغلي تحت السطح، حيث حناجر المحرومين، تؤلف في صمت أنشودة الصرخة التي أنبتها الربيع العربي حيث لم يكن أصحاب القرار مقتنعين، والبطر على أشدّه، واحتقار الإنسان وكرامته، والفساد المستشري أسس للسلطة، وفيما كانت إيديولوجيا التسلّط قائمة على نبذ الآخر ودفعه إلى الهامش كانت إيديولوجيات ردّ الفعل تقوم بدورها الإلغائي الآخر زارعةً في التربة السورية أنصالاً جاهزة للذبح سرعان ما أنبتها الحلّ الأمني، الذي أعاد سوريا قرناً إلى الوراء.

وصلتُ إلى جرمانا بعد ساعة تقريباً ماراً وسط المدينة عابراً باب توما وباب شرقي، مروراً بالدويلعة، وما أن وصلت إلى مدخل الشارع الذي يقع فيه مستودع دار النشر بعد ساحة السيوف حتى رأيت بعض الأحجار تسدّ الطريق، نزلت من السيارة لأزيحها فإذا بي أسمع تلاوةً مترافقة مع صوت: ممنوع المرور، عزاء لشهيد. نزلتُ من السيارة أمام صاحب الصوت وأزحت الأحجار بيديّ قائلاً له بنبرة حادّة إنني سأمرُّ. لم يصدر عنه أي رد فعل، عاد إلى حيث كان وتركني أعبر. شعرتُ أنه منكسر وحزين. مررت. نزلت إلى المستودع، وقفت بين الكتب ونظرت إلى الأسماء: كريشنامورتي، شيموس هيني، أدونيس، ديفد روندوني، توماس ترانسترومر، بيتر لوغوسون، ابن عربي، هشام شرابي، هادي العلوي، محمد أركون وأسماء أخرى لكتاب عرب وغربيين، أحياء وأموات، خُيِّل إليّ أنهم يخرجون من عناوين كتبهم حاملين حمامات سلام كي يطلقوها في فضاء دمشق. وخُيِّلَ إلي أيضاً أنهم مختبئون في المستودع، كما لو أنهم مطاردون ودمهم مهدور، وثمة من يريد قلتهم.

سحبت بعض العناوين التي كنت بحاجة إليها وعدتُ إلى السيارة، ثم قمت بجولة على بعض المكتبات التي شكا أصحابها من انعدام البيع،  كما على الدوام، وذلك كي لا يسددوا ما عليهم من مبالغ. مررت قرب مكتبة ميسلون العريقة مقابل فندق الشام والتي أجبرها تراجع بيع الكتب في دمشق على إغلاق أبوابها بعد أن كانت مقصداً للقراء من جميع أنحاء سوريا. في طريقي إلى مقهى الهافانا حيث كنت أجلس كلّ يوم وألتقي مع بعض الأصدقاء مرّ قربي صديق أعرفه جيداً غير أنه عبر غاضباً ولم يُلْق السلام. كان السبب واضحاً لي، فأنا بالنسبة له مجرم الآن، مجرم رغم أنني ضد الإجرام وضد تبرير القتل أو السجن أو النفي أو الإهانة، ضد كلّ هذا غير أن مشكلتي هي أن صرختي لن تُسمع حتى ولو أطلقتها، فالناس صاروا كأنهم مفرغون في قالب واحد، ولم يعد هناك أفق للفهم. أنا مجرم لأن هناك من يمنح نفسه حقّ تصنيفي ووضعي في فئة، وهو بهذا يقتلني كما يفعل القتلة الآخرون، يجردني من هويتي الفردية التي اخترتها لنفسي ويلبسني هوية تبرر له أن ينبذني ويقصيني وربما يقتلني، وهو بهذا يحوّل نفسه إلى فئة قاتلة مقتولة.

شعرت أن قلبي يتقطّع بمدية مسنونة على مسنّ الحقد. لماذا هذا؟ لماذا أصبحنا عمياناً؟ كانت الأمور تسوء كل يوم وتدفع في اتجاهات التطرف، وتوسُّعِ الهاوية. وبدت لي الأقدام كأنها تتأرجح في الفراغ. فالرصاص الذي أحدث ثقوباً في الأجساد، أحدث ثقوباً في الهويات والانتماءات، ولم تعد السلطة سلطة متشابكة متحالفة، صارت السلطة طائفة، صارت المعارضة طائفة وبدأ صراع الطوائف، وصار كلّ طرف يمنح نفسه حقّ تصنيف الآخر وتعليبه ووضعه في الفئة المناسبة. وابتُذلت اللغة وفاحت رائحة العفونة من الأفكار والكلمات.

أعذرك أيها الصديق، أعذرك وألوم نفسي، ولكن كيف أُفهمكَ أن دمك مقدس بالنسبة لي كدمي، وأنني أدين كل من تسبب بنزف قطرة دم في هذه البلاد. أعذرك رغم أنك قد لا تصدّقني. غير أنني أخاطب الجوهر الذي فيك، الذي لا بدّ أن يستيقظ رغم هذا الحطام.

في شهر آب، لم نعد نحتمل الرصاص الذي يُطلق في الحيّ الذي نسكن فيه. شعرنا أن هناك عملية تخويف، أن إطلاق النار خطة مدروسة لترويع الآمنين. وفي ليلة عنيفة تساقطت فيها القنابل على قدسيا، كانت الحناجر التي تهتف أقوى من دويّ الانفجارات. كانت تصرخ وتستجير. وفي تلك الليلة فُتحتْ أبواب المساجد بعد منتصف الليل واعتلى أشخاص المآذن وبدأوا يخطبون. لم أفهم الكلمات، كانت صوت المكبّرات رديئاً، غير أنني قدّرتُها وأعدتُ بناءها، كانت تريد إسقاط النظام. تتالتْ الانفجارات. انتقلنا في اليوم التالي إلى منزل صديقة في مركز دمشق. في هذا الوقت بالذات ألغيتُ عقد المستودع، ونقلتُ الكتب وسلّمتُها، واتّخذت قراري بالسفر. وبدأت الأمور تتوالى كما لو أنّ معجزة تحدث، وبين بيروت ومدريد وشيكاغو وبمساعدة أصدقاء مخلصين أضاءوا الدرب بنور دعمهم، الذي أنساني أقرباء آثروا ألا يشحنوا الضوء الذي فيهم قائلين إنهم لا يعرفون أحداً في العالم، وأنهم لا يستطيعون أن يقدموا أية مساعدة بسبب "الأزمات الاقتصادية الدولية"، بدأتُ أنا وعائلتي سفراً جديداً، نحو بداية من صفر جديد، كما لو أنّه محكوم عليّ أن يتبدّد عمري في تتالي البدايات وأنا أقفز من صفر إلى آخر، في هذا الفراغ الكوني.

أسامة إسبر

(أيلول، 2013)


عنوان الصورة من هنا.

 

Previous Next

Comments

  • محمد الحموي

    بدايات .. كلنا اليوم نعيد ولادتنا ابتداء من هذه الكلمة
    لقد حالفني الحظ وكان كتابي الأول وليد دار بدايات ..
    بداية جميلة جعلتني أدرك أن النشر في دار يملكها شاعر حقيقي هو النشر الذي أطمح إليه فعليا
    ولا أجد اليوم بعد خروجي أيضا من دمشق في نفس الظروف إلا السعي وراء فيء العلاقات الإنسانية التي جمعتني مع أصدقاء حقيقيين كان منهم واحدا من أكثر الشعراء الذين عرفتهم إنسانية ولطفا وبساطة .. صديقي العزيز شاعر البدايات
    أسامة إسبر ..
    تحياتي دائما إليك

  • رفت عطفة

    كم عبر بعدكم ناس، يا صديقي، وكم مات ناس وكم زاد حقد وزاد خراب
    فلتكن دائماً بداية لبداية فالبداية دائماً خير من النهاية في زمن النهايات الصعبة
    لكم مودتي

 

Leave a reply

This blog is moderated, your comment will need to be approved before it is shown.

Scroll to top