Log-in
Search

النشر كأداة للتخلّف

Posted on November 30, 2013 by Tadween Editors | 1 comment

بدأت دورة معارض الكتاب العربية للعام 2013\2014، وأعلن اتحاد الناشرين العرب وفروعه المحلية عن الدورة وتفاصيلها، ونُشر الجدول الخاص بهذه المعارض، وفي هذه المناسبة، تقوم "تدوين للنشر" بفتح نقاش حول واقع النشر ومشكلاته الجوهرية،  وعلاقته بالتربية في عالمنا العربي.

النشر كأداة للتخلّف

إن العقل الذي يتغذّى من التربة نفسها لن يصبح أفضل من حبة بطاطا، كالطبيعة الإنسانية التي قال الكاتب الأميركي ناثانييل هوثورن إنها لن تنمو أكثر مما تنمو حبة بطاطا لو أنها زُرعت وأعيدت زراعتها في التربة المستنفدة نفسها ولأجيال طويلة. وهكذا فإن إعادة إنتاج المعرفة السائدة كمصدر وحيد للمعرفة، والخنق الرقابي الذي يقضي على حرية الفكر، ومشاريع التمويل التي تعيد إنتاج التراث من منظور ضيق كلّها تؤدي إلى عقل مغلق عصيّ على التطوّر. إن أهمية النشر تكمن في قدرته على تغيير التربة دوماً، وتنويع مصادر المعرفة، من أجل تنشئة العقول والنهوض بالبلدان، غير أننا إذا ما ألقينا نظرة متفحّصة على مدارسنا في العالم العربي، سنلاحظ على الفور أنه لم يُطَوّر مشروع المكتبة المدرسية في معظم المدارس العربية، وخاصة في الدول التي ما يزال التعليم العام الإلزامي قوياً فيها، فيما بقي مفهوم المصدر المعرفي المفتوح على التطوير والتغذية الدائمين، المتاح للطلاب، والمرتبط بحركية التعليم والتربية في الصفوف، غائباً عن أجندة وزارات التربية، ذلك أنّ الطلاب، من الصف الأول حتى الجامعة، لا يُعَلَّمون طرق القراءة الصحيحة، أي الانتقال من تعلّم القراءة والكتابة للصعود فوق مستوى الأمية، إلى اعتناق القراءة من أجل التحصيل المعرفيّ، للصعود فوق مستوى الأمية الثقافية، ولإغناء الحساسية عبر تذوّق الأدب وأنواع الفنون المختلفة، وهذه ظاهرة متفشّية وقويّة، تحصر تداول الكتب والمُنتج الفنيّ في نخب معيّنة، يُمكن تقسيمها إلى أكثرية وأقليّة، وأعني بالأكثرية هنا الجمهور الديني العريض المؤلّف من المُلَقَّنين، وناشدي التسلية، أي قراء الأدب السطحي الدعائي، وهواة كتب المغامرات والتشويق والقصص البوليسية، والكتب السياسية التي تتحدث عن التجسّس والأسرار والمغامرات، وهذا يعني معاودة إنتاج الثقافة في شكلها التقليدي وترسيخها وتحويلها إلى مرجعية مُكررة تُقاس الأمور وفقاً لها، وتُرسّخ التقاليد ولو بأقنعة جديدة. أما الأقلية، فهي المثقفون والباحثون وهواة القراءة من ذوي الفكر الحداثي، وكلّ من حصّل ثقافة مغايرة، أكثر ارتباطاً بالغرب منها بالثقافة المحلية. 

يلعب النشر دوراً جوهرياً في هذا الإطار، فرغم أن النشر يواجه مشكلات تتعلقّ بالشحن والتوزيع وأجور المعارض وغلاء الورق ومواد الطباعة من أحبار وزيوت وقطع غيار خاصة بآلات الطبع وغيرها، ومشكلات تتعلق بالحريات، بينها السقف الرقابي الذي يرتفع دوماً ولا نرى ما ينذر بإزاحته نهائياً كي يتنفّس الكتّاب هواء الحرية، إلا أن محاكمة النشر وتحليل توجّهاته، صارا مسألة عربيّة ملحّة، وخاصة في ضوء التراجع الكبير في إنتاج المعرفة، أي المعرفة القائمة على التحليل والبحث والاستقصاء والاستكشاف في جو من الحرية الكاملة وبعيداً عن أشكال الرقابة السياسية والدينية والاجتماعية، وهذا التراجع في إنتاج المعرفة أوقعنا في شباك قراءات غريبة عن واقعنا، وشكّل ذواتاً منفصمة لا تمتلك استقلالية فكرية، يُفكِّر التُراث من خلالها ويستخدمها كأداة للاستمرار، كما تفكّر تيارات الفكر الغربي من خلالها وتستخدمها كأداة لترسيخ التبعية الفكرية لتكمل دائرة التبعية الاقتصادية والسياسية، أي ذواتاً تحارب نفسها وتسجن نفسها في قفص، بالتالي صار من الملحّ تحليل خطاب الآخر عنّا ونقده وتعريته، وقيامنا بقراءة لأنفسنا ولواقعنا ولتراثنا وماضينا، قراءة لا تُهادن ولا تجامل، هاجسها الحقيقة، والكشف عن مواطن الخلل في الجسد العربي وتعريتها. ولهذا إن ارتباط النشر بالتربية، والتركيز على الكتب التي تنوّر الأجيال الطالعة، صارا حاجة ماسّة في هذا العصر الذي لا وجود مُحْتَرماً فيه إلا لمن يساهم في إغنائه.

كان النشر في تاريخ الغرب، وما يزال، رغم توسّع النزعة التجارية في عالم الكتب، مرتبطاً بقفزات معرفية عميقة،  أي بطرح كتب أحدثتْ تغيّراً نوعياً وانقلابات في طبيعة التفكير البشري، نقلت الإنسان من طور في الوعي إلى آخر. وإذا ما عدنا إلى المكتبة الغربية ودققنا في الكتب التي تصدر، وخاصة في ميادين العلوم بأنواعها، سيذهلنا المخزون المعرفي المرتبط بحركية بحث دائمة، بحداثة متفجّرة لا تعرف حدوداً، توسّع آفاق الوعي وتحدث الزلزلة في بنية الوعي البشري القائمة. أما النشر في عالمنا العربي، في معظمه، فإنه لا ينتج معرفة عميقة قائمة على البحث والاستقصاء وتوسيع آفاق الوعي والخروج من عباءة الماضي والنظرة الدينية إلى العالم، وهنا لا أشمل الدور التقدمية، أو الدور التي تحرص على تقديم كتاب نوعي، وهي قليلة جداً وتتحرك في قفص الرقابة إلا ما ندر.

وإذا ما نظرنا إلى واقع التربية في العالم العربي، فإن التربية السائدة، أفقياً وعمودياً، هي التربية الدينية، في كافة تجلياتها وأشكالها، وهذه التربية الدينية، تهيمن على حركية النشر وسوقه، وتولّد ناشرين همّهم الأساسي الإنتاج الكمي، أي إعادة إنتاج ما هو منتج مسبقاً، وإقصاء أيّ فكر آخر عن ساحة التوزيع الخاصة بهم. إن الدليل الواضح على تخلّفنا الفكري هو انتفاء الكتب التي تحلّل المشكلات الجوهرية والبنيوية في العالم العربي، المشكلات التي ترسّخ التخلّف والمسبقات والنظرة المتوارثة للعالم وتحارب كلّ ما هو جديد ومخالف وحداثوي.

وفي خضمّ الأزمة السورية التي عصفت بما تبقى من إرث للكتاب، ودفعت الناشرين إلى حيّز ضيق نتيجة لتدهور العملة وغلاء الورق وانصراف الناس عن القراءة إلى تدبّر شؤون معيشتهم وسط الارتفاع الكبير لأسعار السلع والحاجات الأساسية يرى بعض الناشرين أن أزمة الكتاب لا ترتبط بالأحداث السياسية بقدر ما هي أزمة مستمرة ترتبط بغياب المؤسسات الثقافية والتربوية الحقيقية وانتشار ثقافة الاستهلاك. ففي تحقيق نشرته جريدة تشرين السورية (25-3-2013) يقول الناشر السوري سامي أحمد، صاحب ومدير دار التكوين، إن السوق العربية عاجزة عن تصريف ألف نسخة من كتاب مهم. ويقول الناشر رضوان الشيخ، مدير دار نور الصباح للكتب الإسلاميّة إن دور النشر الدينية السورية فقدت 60% من زبائنها، وهو يعني هنا الأشخاص والجهات التي تستهلك الكتاب الديني، ويسمّيهم "طلاب العلم في سوريا"، القادمين من البلدان الإسلامية والأجنبية.

إن الغلبة في إنتاج الكتب في سوريا وبقية البلدان العربية هي لدور النشر الدينية. كما أن هناك دور نشر تحرص على تسويق الفكر الديني الوسطي، وكتب التراث في أعداد غزيرة غير محققة، وفي غالب الأحيان تُطرح قرصنات لكتب تراثية قديمة مطبوعة في أوربا أو الهند أو إيران.

وبسبب تراجع دور الجامعات العربية، وتحوّلها إلى مجرد مدارس عادية، أو مصانع لتخريج الطلاب على نحو آليّ بدون تهيئة أكاديمية ملائمة، خبتْ روح البحث، وتقلّص عدد الباحثين الميدانيين، ونادراً ما يولد كتاب محليّ يعالج الإشكاليات العميقة للبلدان العربية، وقد يكون هذا غير مسموح أيضاً بسبب الرقابة والمنع وتقييد حرية الفكر والتي هي إنجازات سلطوية ما تزال مستمرة للأسف حتى الآن ولا يبدو في الأفق ما ينذر بنهايتها.

إن حركة النشر في العالم العربي، في معظمها غير مرتبطة بمشروع تنويري، إلا أن من واجبها أن ترتبط بالتنوير لأنّ المنطقة العربية تعاني من أشكال مختلفة من الأمية، بدءاً من الأمية العادية وانتهاء بالأمية الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. فالمدارس العربية لا تزرع في الطالب العربي حبّ الكتاب، ويقوم التعليم فيها على التلقين والتكرار كما لو أن الطالب ببغاء في قفص. إن هذا الواقع هو الذي يتحكم بحركة النشر التي تدور في أفلاك غير مرتبطة بالإبداع الفكري وبتعميق الفكر النقدي التساؤلي والبحث الميداني ومساءلة المقدس. فإذا كانت الكتُب المُنتجة تتحرك في أفق الرقابة فهذا يعني أنها تقدم نوع الفكر أو الأدب المقبول أو المرضي عنه أو "المهذّب".

فضلاً عن ذلك، إن كثيراً من دور النشر العربية لا تعتمد محررين يتمتعون بالدقة والعمق والخبرة، ولذلك كثيراً ما ترى الأخطاء المطبعية على الكتب من النظرة الأولى، كما أنّ كثيراً من الكتب تفتقر لجمال الشكل، ولخفة الوزن، مما يسبب التعب أو الملل للقارئ.

لا ينبغي تعميم هذا الكلام، إلا أنني أتحدث هنا عن البنية، عن المولِّد الداخلي الذي يكمن وراء المشهد، فما يتكدس على رفوف معارض الكتب العربية، هو كمّ هائل من الكتب الكافية لتضليل الأجيال الطالعة، ولزيادة إرباكها، أو للتحكّم بوعيها عبر قنوات تربوية توجيهيّة منذ الطفولة حتى بلوغ سن الرشد.

تغفل دور النشر العربية الجانب التربوي،  فإذا ما أخذت على سبيل المثال التربية الجنسية فإنك لن ترى كتاباً واحداً علمياً رصيناً موجّهاً إلى شرائح عمريّة معيّنة، مقابل ذلك سترى الكثير من الكتب التي ترسّخ السيطرة على النساء عبر التفسيرات الدينية السائدة وتفرعاتها. أما الحكومات العربية فإنها لا تضع ثقلها في إنتاج وترجمة ونشر المعارف التي تساعد المربيّن على تهيئة الأجيال الطالعة وتعليمها بالشكل الذي يناسب التطور الجاري في عالمنا المعاصر.

إن إعادة إنتاج التراث بلا نهاية، والتركيز على ترويج كتب التسلية والخوارق والألغاز وغيرها، يضعنا في دوامة من الإنتاج الذي يكرر نفسه بلا نهاية، مفرغاً بهذا التكرار العقل من حيويته وقدرته على التساؤل والتفكير.

لا يتحرك النشر في إطار مشروع ثقافي تربوي متكامل، وحتى سلاسل الكتب التي تصدرها الدول، تتسم بعدم وجود خطّة متكاملة قابلة للاستمرار، ويؤثّر بها "التنفيع"، وفرض كتب معيّنة، فقد استقال مثلاً مدير التأليف في وزارة الثقافة السورية محمد كامل الخطيب، وهو الروائي والباحث المعروف، (قبل الأزمة) احتجاجاً على استهداف خطتّه لنشر الكتب التنويرية وسلسلة الروايات الغربية الكلاسيكية عبر محاولة فرض كتب عاديّة ولا قيمة لها على السلسلة. أضف إلى عملية "التنفيع" هيمنة البيروقراطية وطبقة الموظّفين على إنتاج الكتب، فالذين يسيّرون مشاريع كهذه هم عادة من الموظّفين الذين يبعدون المبدعين ويدفعون بهم إلى هوامش الاستشارة الشكلية، دون أن يسمحوا لهم بلعب دور تأسيسيّ. 

إن حركة النشر في السياق العربي محفوفة بالمصاعب بدءاً من الشحن والمعاملات الجمركية إلى أجرة الجناح في المعرض المضيف، وهذا يحتاج إلى معالجة من قبل الدول المستضيفة للمعارض والمشاركة فيها أيضاً. وقد سمعنا في العام المنصرم عن معاملة عنصرية في أحد المعارض الخليجية ضدّ أبناء دولة عربية، دون النظر إلى الأشخاص على أنهم يمثلون صناعة النشر وإنتاج المعرفة، ودون احترامهم كمواطنين بغض النظر عن انتمائهم.

إن التربية دم الشعوب، فإذا ما فسد هذا الدم، يتحول المجتمع إلى جثة منتنة، وهذا ما حرصت إلى دفعنا إليه السياسات الثقافية العربية، التي لم تفكّر في يوم من الأيام بمسؤوليتها إزاء الأجيال الطالعة، التي حين لم تجد أمامها سوى الفراغ والضياع لجأت إلى خيارات التطرّف الديني والإدمان والهجرة. وإذا كانت الأجيال الطالعة تجد في الإعلام الاجتماعيّ بديلاً ومجالاً عاماً افتراضياً لطرح قضاياها وشكاواها فإن غلبة الكمّ على الكيف واضحة، فيما القاعدة العريضة من المجتمع منفصلة عن هذا الفضاء، نظراً لعدم توفر الإنترنت في معظم الأرياف العربية، ولعدم انتظامه وللتحكم القائم به من قبل السلطات.

إن المعرفة المُنْتَجة في هذا الفضاء هي في أغلبها امتداد للثقافة السائدة.

إذا كان وضع الكتاب الورقيّ مزرياً، فإنّ الكتاب الإلكتروني سيدخل في السيرورة نفسها التي تكرّس الوضع الثقافي والنشريّ القائم، وبالتالي فإنّ الكتاب الإلكتروني مرشّح لأن يكون وسيطاً جديداً للتخلّف. فالنشر الالكتروني بحسب بداياته المتواضعة، وما يُكتب عنه، اندرج في خطة لإعادة إنتاج كتب التراث دون تمييز، وسيقوم أصحاب رؤوس الأموال والمتبرّعون والواهبون، الذي يعملون في حقل الإنتاج الكمي للتراث، في الانتقال إلى الكتاب الإلكتروني لجمهور جاهز. فكما احتلّوا الفضائيات ووجّهوها، سيقومون باحتلال النشر الإلكتروني وتوجيهه كما يريدون. 


أسامة إسبر


عنوان الصورة من هنا.
Previous Next

Comments

  • Rifaat Atfé
    إنها لحقيقة مؤلمة لا بدّ من مواجهتها بمشروع تنويري هادئ وحقيقيّ فحرق المراحل حرق البلاد
 

Leave a reply

This blog is moderated, your comment will need to be approved before it is shown.

Scroll to top