Log-in
Search

كيف أصبح الكتاب في عصر الاستهلاك سلعة مؤجلة لدى المواطن العربي ٢

Posted on January 27, 2014 by Tadween Editors | 0 comments


إذا ما تمعنا النظر في هذا المشهد الذي حدث في خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي يمكن إسقاطه درامياً على ما يحدث في كثير من الدول العربية. فاتحاد الناشرين السوريين على سبيل المثال، الذي استحدث بالمرسوم الجمهوري الصادر سنة 2004، لم ينعقد مؤتمره التأسيسي إلا في 2006، حيث تم انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي على شكل تكتلات شكلية ذات طابع إسلامي. وحتى الآن لا توجد خطة عمل ومن دون تواصل حقيقي مع جميع دور النشر، إذ إنّ المنافع الشخصية التي ذكرناها مع أول اتحاد مصري تتكرر في تسويق المصالح الشخصية باسم الاتحاد. فالمراكز يتم الوصول إليها بلعبة التوازنات والتكتلات القائمة على الأقدمية، هذا دون الحديث عن عجز الاتحاد الفكري والثقافي وابتعاد السمة الديمقراطية عنه عبْر تجييره إلى التوجه الإسلامي. وهكذا يتحول اتحاد الناشرين العرب في أعماله إلى احتفالات رسمية وولائم بعيداً عن القدرة على حل المشاكل المتزايدة أمام الناشر العربي.

إن أغلب أعضاء المكاتب التنفيذية في اتحادات النشر العربية لا يعرفون أو لا يهتمون بوجود إشكالية فكرية عميقة تتعلق بظاهرة القراءة على مستوى المجتمعات العربية، وهم يستندون إلى نماذج محددة طبعت عدة مرات بنسخ تجاوزت فيها أرقام قياسية غير متوقعة. وهناك من سيقدم أمثلة استثنائية لها، من مثل "لا تحزن" و"لا تضحك" و"أهوال القبور" و"فتاوى الأئمة النجدية" و"اعتني بجسمك وأسنانك" و"صدام مازال حياً". وبالتأكيد يمكن تأطير نجاح هذه العناوين ضمن مفهوم "ثقافة الاستهلاك"  أكثر مما يمكن ربطه بمشهد ثقافي عربي متفاعل مع بيئته، وكلها عناوين هدفها الثرثرة والاستخفاف بعقل القارئ.

 آلاف العناوين تُطبع سنوياً باسم حاجات السوق ورغبات القارئ لدى ناشرين لا يمتلكون أية خطة نشر ثقافية سوى أهداف الكسب التجاري، تزيد من تخلف المجتمعات العربية. وهم لا يستفيدون فقط من انتشار ثقافة الاستهلاك باللجوء إلى جميع الوسائل غير المشروعة لبيع كتبهم، كما يحدث على سبيل المثال في "رشوة" اللجان المختصة بشراء الكتب في المعارض العربية لصالح الجامعات والمؤسسات الرسمية. لكن أزمة تراجع النشر موجودة، فخارج تصريحات هؤلاء الناشرين المتكسّبين من الجهل في مجتمعاتنا، فإن هناك إشكالية حقيقية تتمثل بشكوى الناشرين من عدم قدرة السوق على استيعاب وتصريف عناوين بألف نسخة، بعد أن كان يُطبع سابقاً من العنوان الواحد ما يزيد على ثلاثة آلاف نسخة. والبعض أخذ يشكك بجدوى الاستمرار بعملية النشر أمام اجتياح العصر الإلكتروني بمنظوماته السمعية ـ البصرية. ويزيد من أزمات الكتاب في العالم العربي الرقابة البالية في عصر اختراق كافة الحدود من قبل الفضائيات التلفزيونية وشبكات الإنترنت إضافة إلى العوائق الجمركية ومشاكل التسويق والمعارض العربية، التي تقف اتحادات الناشرين عاجزة عن فعل شيء أمامها.

إن بناء السياسات الصحيحة والعملية لاتحاد الناشرين ترتبط بمعطيات دور النشر من العناوين المطبوعة وعدد النسخ من كل عنوان ومدى تسويقها، وبالتالي فإنها لا تقوم إلا على الإحصائيات الدقيقة المنظمة بطريقة علمية. ولكن الإحصائيات العربية في مجال النشر غير دقيقة بسبب غياب المناهج العلمية والباحثين المؤهلين لمثل هذه الأعمال،  وما هو موجود حتى الآن يتسم بالعشوائية وتداخل المصالح الشخصية بإدخال أرقام عالية غير متناسبة مع الواقع لرفع سمعة ناشر على آخر على أسس وهمية. إن غياب السياسات القائمة على دراسة واقع الكتاب والأعمال الإحصائية العلمية تعد من معوقات نهضة الكتاب العربي وتطوير مهنة النشر.

 

4 ـ بعض مظاهر أزمة اتحادات الناشرين العرب

تتبدى بعض مظاهر أزمة اتحادات الناشرين العرب التي تنعكس على حل مشاكل وأزمات مهنة النشر وتطويرها بما يلي:

1 - غياب أخلاقيات المهنة التي من الممكن أن تجمعهم على أهداف مشتركة في إطار نشاطهم العام. 

2 - نقص الدراسات العلمية والإحصائية في موضوع الكتاب العربي، والمتعلقة بمعرفة توجهاته ووسائل إنتاجه وطرق تسويقه.

3 - ضعف الخطط من أجل الإعلان والترويج للكتاب، مما يزيد من أزمة الابتعاد عن الكتاب.

4 - عدم القدرة على مواجهة إشكاليات الرقابة الرسمية والدينية في البلدان العربي.

5 - غياب الخطط الناجحة التي تعترض مسيرة الكتاب، وخاصة في انتقاله من بلد عربي إلى آخر، من قوانين التصدير والاستيراد والضرائب الجمركية.

6 - عدم القدرة على حل مشاكل الاحتيال والنصب والتزوير وسرقة حقوق النشر من قبل الناشرين المتطفلين، وخاصة مع غياب القوانين والضوابط الرادعة والإشهار بحق المخالفين.


5 ـ أزمة القراءة عند المواطن العربي

لماذا لم نعد نقرأ ؟ 

قيل قديماً: سُمِّي الكتاب كتاباً لاجتماع الحروف فيه، كما سُمِّي العسكر كتيبة لاجتماع الجند فيها.

إن أزمة الكتاب في العالم العربي تنبع من الأزمة الثقافية العامة، وهي مظهر من مظاهر الأزمة التي يمر بها على كافة المستويات. فقد أسهمت الأنظمة القمعية في تعميق هذه الأزمات بعسكرة المجتمعات العربية، سواء بأشكال سلطات العائلة أو القبيلة أو العشيرة، مما كان يعني تغييب العقل تحت سلطة الخوف.

 

يمكن تحديد أزمة القراءة الحالية في العالم العربي بعوامل عدة، منها:

 

1 - نظام التلقين والحفظ المطبق في المدارس والمعاهد التعليمية والجامعات، والذي يتعرض له الأفراد منذ طفولتهم إلى نهاية دراساتهم الجامعية. نتيجة هذا فإن نسبة عالية من خريجي الجامعات لا يقرأون بعد انتهاء دراساتهم الأكاديمية، ومنهم من يتبوأ مناصب رسمية في الدولة وفي مواقع اتخاذ القرار.

2 - ضعف السياسات الثقافية في البلدان العربية، مما يؤدي إلى توليد الأزمات الثقافية المستمرة. والمسؤولون عن تنفيذ هذه السياسات هم في الغالب إداريون بيروقراطيون لا يملكون رؤية سياسية واجتماعية لما تعانيه المجتمعات العربية من أزمات ثقافية، وهم يستلمون مناصبهم عادةً بسبب انتماءاتهم إلى العائلة أو القبيلة أو الطائفة أو الحزب الحاكم، مما يعد تكريماً لولائهم، ويسهم بالتالي في تخريب المؤسسات الثقافية وتلك التي من المفترض أن تدعم الحركة الثقافية العامة.

3 - ثورة الاتصالات والمعلومات التي تحولت في العالم العربي إلى مظاهر استعراضية دعائية لتجميل الوجوه الجديدة للأنظمة العربية. واستخدام الإنترنت في العالم العربي ليس استخداماً معرفياً بقدر ما هو محاولة لخرق المحرمات والممنوعات التي تتيحها المواقع الالكترونية بالرغم من المحاولات التقنية من قبل السلطات لحجبها.

4 - الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي يعيشها معظم أفراد المجتمعات العربية، والتي تنعكس على تحديد الاحتياجات الضرورية في حياتهم، ويتراجع فيها الكتاب إلى مواقع كمالية.

5 - تحول الفرد في العالم العربي من "مواطن" إلى "مستهلك" عبر الارتباط مع ثقافة الاستهلاك التي يعيشها بصرياً ونفسياً وعقلياً.

6 - انهيار الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية اقتصادياً وروحياً، وهي المنتجة الأساسية تاريخياً للإبداع والفعل المعرفي والثقافي، وذلك نتيجة سياسيات الإفقار لها وثقافة الفساد التي تحاصرها.

7 ـ انهيار وإخفاق "المشاريع الثورية" التي ارتبطت بالأحزاب الراديكالية، مما أدى إلى توقف الحراك السياسي وتوجه الشباب إلى "المعابد الدينية" كحالة تعويضية.

 8 - إن مشكلة تراجع القراءة ليست مرتبطة بمشكلة غلاء الكتب وحسب وإنما بتغير المفاهيم والقيم التي تسود المجتمع في تحولاته إلى العلاقات السطحية والنفعية والانتهازية السريعة في إطار ثقافة الاستهلاك. إن المشكلة ليست في الأفراد، وإنما في علاقات اقتصادية واجتماعية فرضها تخلف سياسي تاريخي وبنية بطريركية عصبوية قمعية، تعمّقها أنظمة الحكم باسم الإله والوطن وتكريس هوية الخوف من القمع، مما جعل لهؤلاء الأفراد متنفساً في ثقافة الاستهلاك التي حققت لهم المتعة الخيالية.

9 - التيارات الدينية الجديدة التي تخلت عن مشاريع عصر النهضة التي أعلنها مصلحو القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين باعتدالية واضحة وبدأت تأخذ منحى التوجه نحو السلطة وامتلاكها بالعنف، متقوقعة خلف مراجعها السماوية، "لأن أغلب الشباب العربي روحاني وقد شدّه المد الديني"، وقد استفادت هذه  التيارات من إخفاق المشاريع القومية والماركسية التي وصلت إلى طرق مسدودة في نهاية القرن السابق.

10- تحول المثقف الماركسي والقومي إلى يوم الجمعة ويوم الأحد، مما أدى أيضاً إلى تفريغ الحياة السياسية من الهوية الثقافية.

11- تحول غالبية النخبة المثقفة إلى أداة بيد الأنظمة السائدة، وأحزابهم، غدت تابعة للنظام بدلاً من أن تكون حراكاً سياسياً ثقافياً فعّالاً.

12- السلطة البطريركية العشائرية التي تحكم في العالم العربي تحت مسميات الحزب وتنظيمه، بحيث يصبح زعيم القبيلة "القائد الملهم" بوجهيه العسكري المسيطر والإيديولوجي المتواري خلفه، لأنه الحاكم باسم الإله على الأرض.

13 - الثقافة العربية الآن، تعيش على مصطلح فلسفي جديد أسميته "الإيدزلوجية"، وهذا المرض الذي نعيشه، ونألفه (كان  جزءاً من تراثنا الثقافي العربي) وصار جزءاً من حياتنا اليومية الحديثة والمدنيّة، وهو فقدان المناعة المكتسبة  في عقولنا التي أغلقنا عليها أبواب القدر، وصرنا بها نقعي على مؤخراتنا كالفقمات،  مصطلح جديد يُضاف إلى ثقافتنا.  

14 - عزل كتّاب جادين عن مسرح الكتابة بتهمة أنهم دعاة للثقافة الغربية ويهددون السلم الأهلي، والاطمئنان المعرفي .

15 - تحول الناشر إلى مجرد وسيط تجاري بين المؤلف والمطبعة، وانعدام القوانين المشتركة والأخلاقية بين الناشرين ورقابة الكتب في المعارض. 

على هذا النحو تحولت المؤسسات الثقافية العربية إلى مراكز تعبئة وتجييش للدفاع عن الواقع القائم الرديء للاستمرار في كراسيها حتى الموت، وكأن هدفها إنتاج "لا ثقافة" (تجهيل) ورفض حق الاختلاف.

إنّ مشكلة الثقافة العربية لا يمكن حلها إلا بعودة الطبقة الوسطى، وإعادة الاعتبار للمناهج العقلانية والرؤى الإنسانية، لأن العالم العربي الآن محكوم بكتب الغيب وخلافات تراثية فقهية لا تقدم، ولا تؤخر ولكنها فقط تؤدي إلى ضياع الوقت لإنهاك الثقافة العقلانية واحتلال مواقعها التي نحن بحاجة إليها كالهواء.

المطلوب الآن حراك ثقافي حقيقي وفعال، يعيد إلى الحياة الثقافية ألقها وقوتها بعد غياب طويل، لأن الثقافة اليوم تحتاج إلى أعصاب تمنحها رعشة جديدة. وتجسيد هذا الحراك يتمثل في تفعيل المؤسسات الثقافية ومجلاتنا وصحفنا التي تبدو وكأنها بلا جذور أو إرثٍ ثقافي يعرفه العرب. لا تبدأوا من الصفر، لا تُعيدونا إلى الوراء، رجاؤنا الوحيد أن يتولى مسؤولية الثقافة من هو قادرٌ على النهوض بها والانطلاق من النقطة التي بلغتها بدلاً من الرقص حولها والنقيق كالضفادع ..

 

 

سامي أحمد

شاعر، ومؤسس وصاحب دار التكوين للطباعة والنشر والتوزيع في سوريا

 

Tags: Publishing
Previous Next

Comments

 

Leave a reply

This blog is moderated, your comment will need to be approved before it is shown.

Scroll to top