Log-in
Search

النبتة الشبح

Posted on February 12, 2015 by Tadween Editors | 0 comments
إليزابيث جلبرت
فعلتْ ألما هذا. تعلمت كيف تطحن خيبات أملها تحت كعب بوطها. كان لديها بوط قوي، أيضاً، وهكذا فقد كانت مهيأة للمهمة جيداً. بذلت جهداً كي تحول أحزانها إلى مسحوق رملي يمكن أن يُرفس إلى الحفرة. كانت تفعل هذا كل يوم، وأحياناً عدة مرات في اليوم، وهكذا تابعت.
مرت الشهور. ساعدت ألما والدها، وساعدت هانيكي، وعملت في البيوت الزجاجية، ونظمت أحياناً وجبات عشاء رسمية في وايت إيكر من أجل إلهاء هنري. لكنها نادراً ما شاهدت صديقتها القديمة ريتا، وكانت رؤية برودنس أكثر ندرة، لكنها التقت بها أحياناً. فبحكم العادة فقط، كانت ألما تذهب إلى الكنيسة أيام الأحد، رغم أنها غالباً، وعلى نحو مخز، كانت تتبع زياراتها إلى الكنيسة بزيارات إلى غرفة التجليد، كي تفرغ ذهنها من خلال لمس جسمها. لكن العادة في حجرة التجليد لم تعد ممتعة، تشعرها بالحرية نوعاً ما فحسب.
شغلت نفسها على الدوام، لكنها لم تكن منشغلة بما يكفي. ففي غضون سنة، شعرت بسبات زاحف أخافها كثيراً. تاقت إلى نوع ما من العمل، أو مشروع ينفّس عن طاقاتها الفكرية المعتبرة. ساعدتها مسائل والدها التجارية في هذا الصدد، بما أن العمل ملأ أيامها بأكوام كبيرة من المسؤوليات، ولكن في الحال صارت فعالية ألما عدوها. كانت تنجز  المهمات لشركة ويتاكر بشكل جيد وسريع جداً. وفي الحال، بعد أن تعلمت كل ما هي بحاجة إلى تعلمه عن استيراد وتصدير النباتات، صارت قادرة على من إكمال عمل هنري في أربع أو خمس ساعات في اليوم. لكن هذه لم تكن ساعات كافية، مما ترك الكثير من ساعات الفراغ، وكانت ساعات الفراغ خطيرة. فقد قدمت ساعات الفراغ فرصة كافية لفحص خيبات الأمل التي كانت تنوي سحقها تحت كعبي حذائها.
في هذا الوقت أيضاً، العام الذي أعقب زواج الجميع، وصلت ألما إلى إدراك مهم وحتى صادم: فعلى عكس اعتقادها في الطفولة، اكتشفت أن وايت إيكر ليست مكاناً كبيراً جداً. كان الأمر على عكس ذلك تماماً: كانت مكاناً صغيراً. صحيح أن مساحة العزبة أكثر من ألف فدان، بميل من الواجهة النهرية، ووببقعة كبيرة من الغابة العذراء، وبمنزل ضخم، ومكتبة هائلة، وبشبكة واسعة من الاصطبلات والحدائق والبيوت الزجاجية والبرك والجداول، لكن إذا كان هذا يشكل حدود العالم كله بالنسبة لشخص (كما شكل بالنسبة لألما)، فإنه ليس كبيراً أبداً. إن أي مكان لا يستطيع المرء مغادرته ليس كبيراً، خاصة إذا كان المرء عالم طبيعة!
كانت المشكلة هي أن ألما أمضت حياتها سابقاً في دراسة طبيعة وايت إيكر، وتعرف المكان جيداً. تعرف جميع الأشجار والصخور والطيور وجميع أزهار السحلبية. تعرف جميع العناكب، وجميع أنواع الخنافس والنمل. ليس هنا شيء جديد للاكتشاف بالنسبة إليها. نعم، بوسعها دراسة النباتات الاستوائية الجديدة التي تصل إلى بيوت والدها الزجاجية المثيرة للإعجاب كل أسبوع، لكن هذا ليس اكتشافاً! فقد اكتشف أحد ما هذه النباتات من قبل! ومهمة عالم الطبيعة، كما فهمتها ألما، هي الاكتشاف. لكن لن تسنح فرصة كهذه لألما، لأنها وصلت إلى أقصى حدودها النباتية من قبل. أخافها هذا الإدراك وأصابها بالأرق ليلاً، الأمر الذي أخافها أكثر.  خافت من القلق الذي يزحف إليها. كان بوسعها أن تسمع ذهنها يخطو داخل جمجمتها، مسجوناً ومتضايقاً، وشعرت بوزن السنوات كلها التي ستعيشها، تثقل عليها بتهديد ثقيل.
كانت ألما عالمة تصنيف بالفطرة ليس لديها شيء جديد تصنّفه، أبعدت قلقها عبر ترتيب الأمور الأخرى. فقد رتبت أوراق والدها بحسب الترتيب الأبجدي، وجعلت المكتبة أنيقة متخلصةً من الكتب ذات القيمة الأدنى. ورتبت مجموعة الآنية على الرفوف بحسب الطول، وأنشأت أنساقاً أكثر دقة من التصنيف المفرط، وفي الصباح الباكر من أحد أيام شهر حزيران\يونيو، جلست ألما ويتاكر لوحدها في منزل العربات، تفحص جميع الأبحاث التي ألفتها لجورج هوكس. كانت تحاول أن تقرر إن كانت ستصنف أعداد مجلةبوتانيكال أميركانابحسب الموضوع أو التسلسل الزمني. لم تكن مهمة ضرورية، غير أنها ستشغلها ساعة.
في قاع هذه الكومة، عثرت ألما على مقالتها الأولى، التي ألفتها حين كانت في السادسة عشرة من عمرها، عن المونوتروبا هايبوبيتس  (النبتة الشبح، أو نبتة الجثث). قرأتها ثانية. كانت الكتابة بسيطة، لكن العلم عميق، وما يزال تفسيرها لهذه النبتة التي تحب الظل كمتطفلة ذكية غير دموية صالحاً. وحين نظرت بتمعن إلى رسوماتها القديمة للنبتة الشبح، اضطرت للضحك تقريباً من فظاظتها البدائية، وبدت رسومها البيانية كما لو أن طفلاً رسمها، وجوهرياً هذا ما حدث. لا يعني هذا أنها أصبحت فنانة لامعة في الأعوام الماضية، لكن تلك الرسومات كانت فظة في الحقيقة.  وكان جورج لطيفاً بحيث أنه نشرها. كان القصد هو أن تُصوَّر نبتة المونوتروبا الخاصة بها على أنها تنمو في حوض من الطحالب، ولكن في تصوير ألما، بدا وكأن النبتة تنمو من مخدة قديمة كثيرة الكتل. لن يكون أحد قادراً على تحديد تلك الكتل الكريهة في قاع الرسمة كطحالب مطلقاً. كان يجب أن تُبْرز الكثير من التفاصيل.  وكعالمة طبيعة جيدة يجب أن ترسم رسمة تصوّر بدقة في أي صنف من الطحالب نمت المونوتروبا هايبوبيتس.
أدركت ألما أنها لا تعرف في أي صنف من الطحالب تنمو المونوتروبا هايبوبيتس، وأنها غير متأكدة بشكل كامل من أنها تستطيع التمييز بين أصناف مختلفة من الطحالب. كم يوجد منها، بأية حال؟ البعض؟ دزينة؟ عدة مئات؟ وعلى نحو صادم، لم تكن تعرف.
ثم ثانية، أين ستتعلم هذا؟ من سبق وكتب عن الطحالب؟ أو حتى عن النباتات اللاوعائية بصفة عامة؟ لم تسمع عن كتاب مرجعي واحد عن الموضوع. لم يصنع أحد مهنة من هذا بعد. ومن سيريد ذلك؟ فالطحالب ليست أزهار سحلبية، ولا أرز لبنان. ليست كبيرة أو جميلة أو بارزة للعيان. ولم تكن الطحالب طبية ومربحة، يمكن أن يصنع منها رجل مثل هنري ويتاكر ثروة. (رغم أن ألما تذكرت أن والدها أخبرها أنه حزم بذور الكينا الثمينة في طحالب مجففة، كي يحافظ عليها أثناء نقلها إلى جافا). ربما كتب جرونوفيوس شيئاً ما عن الطحالب. لكن مرّ الآن سبعون عاماً تقريباً على عمل العجوز الهولندي، صار قديماً وناقصاً بشكل كبير. وكان واضحاً أنه لا أحد خصص انتباهاً كبيراً لهذا الشيء. حتى أن ألما قد سدت الجدران القديمة لمنزل العربات المفتوحة على الرياح العاتية بحشوات من الطحالب، كما لو أنها حشوات قطنية.
لقد أهملتها.
نهضت ألما بسرعة، لفت نفسها بشال، وضعت منظاراً مكبراً في جيبها وركضت إلى الخارج. كان صباحاً منعشاً، بارداً ومدلهماً قليلاً. لكن الضوء كان تاماً، ولم تكن مضطرة للذهاب بعيداً، ففي بقعة مرتفعة على ضفة النهر، ثمة نتوء من الصخور الكلسية تظلله الأشجار القريبة. تذكرت أنها ستعثر هناك على الطحالب، إذ هناك جمعت المادة العازلة لمكتبها.
تذكرت على نحو صحيح. تماماً على حد الغابة والصخور، وصلت ألما إلى الصخرة الأولى في النتوء. كان الحجر أضخم من ثور نائم، وكما اشتبهت وتوقعت، كان مغطى بالطحالب. ركعت ألما بين الأعشاب الطويلة وقربت وجهها من الحجر قدر الإمكان. وهناك، ليس على ارتفاع أكثر من إنش فوق سطح الحجر، شاهدت غابة كبيرة وصغيرة. لم يكن هناك شيء يتحرك داخل هذا العالم الطحلبي. حدقت فيه بإمعان بحيث استطاعت أن تشمه، كان رطباً وغنياً وقديماً. ضغطت ألما يدها بلطف على هذه الغابة الصغيرة المحكمة. انضغطت الطحالب تحت راحة كفها وقفزت عائدة كي تتشكل دون شكوى. كان هناك شيء ما مثير في استجابتها لها. شعرت بأن الطحالب دافئة وإسفنجية، أكثر دفئاً من الجو الذي حولها بعدة درجات، وأكثر رطوبة مما توقعت. بدا وكأن لها طقسها الخاص.
وضعت ألما العدسات المكبرة على عينيها ونظرت ثانية. تحولت الغابة المنمنمة تحت نظرتها إلى تفاصيل رائعة ومهيبة. شعرت بأن نَفَسها توقف. كانت هذه غابة مخدرة. كانت هذه الغابة الأمازونية كما تُرى عن ظهر عقاب استوائي. حلقت عينها فوق المشهد المدهش، متبعة ممراته في كل اتجاه. هناك أودية كثيرة ممتلئة بأشجار صغيرة من شعر الحوريات المضفر والكرمة الصغيرة المتدلية. هناك روافد لا تكاد تُرى تجري عبر تلك الغابة، وثمة محيط منمنم مكتئب في مركز الحجر، حيث تصب المياه كلها.
فوق هذا المحيط ـ والذي كان بحجم نصف شال ألما ـ  عثرت على قارة أخرى من الطحالب. وفي هذه القارة الجديدة، كل شيء مختلف. وخمنت أن هذا الجزء من الصخرة يتلقى كمية أكبر من ضوء الشمس، أو كمية أقل بقليل من المطر؟ على أي حال، كان هذا مناخاً جديداً بشكل كامل. فالطحالب تنمو هنا في سلاسل جبلية بطول ذراعي ألما في عناقيد جميلة كأشجار الصنوبر من الأخضر الأكثر دكنة ووقاراً. وعلى ربع دائرة أخرى من اللوح الحجري نفسه، عثرت على بقع من الصحارى متناهية الصغر، يسكنها نوع ما من الطحالب القوية، الجافة والمتساقطة التي لها شكل الصبّار. وفي مكان آخر، عثرتْ على مضائق بحرية شديدة الصغر، عميقة بحيث أن الطحالب التي في الداخل ما تزال، حتى الآن في شهر حزيران\يونيو،  وعلى نحو لا يُصدق، متجمدة بآثار متبقية من ثلوج الشتاء. لكنها عثرت أيضاً على مصبات أنهار دافئة وكاتدرائيات صغيرة جداً وكهوف من حجر الكلس بحجم إبهامها.
ثم رفعت ألما وجهها ورأت ما كان أمامها: دزينات أخرى من الألواح الصخرية، أكثر مما تستطيع أن تحصي، وكل واحد مكسو بالطريقة نفسها، ومختلف على نحو دقيق. شعرت أنها ضائعة. كان هذا العالم برمته. كان هذا أكبر من عالم. كان هذا القبة الزرقاء للكون كما تُرى عبر أحد تلسكوبات وليم هيرشيل الجبارة. كان هذا كوكبياً وواسعاً. كانت هذه مجرات قديمة لم تُكتشف، تدور أمامها، وكان الأمر على ما يرام هنا! ما يزال بوسعها أن ترى منزلها من هنا. تستطيع أن تشاهد الزوارق القديمة المألوفة في نهر سكيوكيل. تستطيع أن تسمع الأصوات البعيدة لعمال بساتين والدها يعملون في غيضة الدراق. لو رنت هانيكي الجرس من أجل وقت تناول الطعام في تلك اللحظة نفسها، لسمعتْها.
تشابك عالم ألما وعالم الطحالب معاً في كل ذلك الوقت، استلقيا فوق بعضهما، وزحفا فوق بعضهما. لكن أحد هذين العالمين صاخب وضخم وسريع، بينما الآخر هادئ وصغير وبطيء، وبدا أحد هذين العالمين غير قابل للقياس فحسب.
غمست ألما أصابعها في الفراء الضحل الأخضر وشعرت باندفاع متعة وتوقع. يمكن أن يكون هذا لها! لم يكرس أي عالم نبات قبلها نفسه بشكل خاص لدراسة هذا الصنف الذي لم يقدره أحد حق قدره، لكن ألما تستطيع القيام بذلك، وتمتلك الوقت من أجله، والصبر أيضاً. وتمتلك الكفاءة. وأكيد لديها المجاهر من أجل ذلك، والناشر أيضاً، لأنه مهما حصل بينهما (أو لم يحصل) فإن جورج هوكس سيكون سعيداً على الدوام بنشر مكتشفات أ. ويتاكر، مهما كانت.
عارفةً كل هذا، شعرت ألما أن عالمها صار أكبر وأصغر بكثير في آن واحد، لكن هذا الصغر ممتع. فقد قلص العالم نفسه إلى إنشات لا نهاية لها من الاحتمالات. إن حياتها يمكن أن تُعاش في نمنمة كريمة. وأدركت ألما أن الشيء الأفضل أنها لن تتعلم أبداً كل شيء عن الطحالب، ذلك أنها تعرف أن هناك الكثير من هذه المادة في العالم؛ وهي في كل مكان، ومتنوعة جداً. وربما ستموت من الشيخوخة قبل أن تفهم حتى نصف ما يحصل في حقل هذا الجلمود الصخري الواحد.
حسناً، هذا جميل! ويعني أن هناك عملاً أمام ألما لبقية حياتها، ولن تكون عاطلة عن العمل بعد الآن، ولن تكون تعيسة، وربما لن تكون وحيدة.
لديها مهمة.
ستدرس الطحالب.
لو كانت ألما من الروم الكاثوليك، لصلّبتْ امتناناً لله على هذا الاكتشاف، لأن هذا اللقاء ولّد شعوراً روحياً رائعاً كالاهتداء الديني. لكن ألما لم تكن امرأة متدينة. لكن تصاعد أملٌ في قلبها، وبدت الكلمات التي نطقت بها بصوت مرتفع كالصلاة في كل تفاصيلها:
قالت:“الحمدُ للأعمال التي تنتظرني. لنبدأ”.
* مقطع من روايةتوقيع الأشياء كلهاللروائية الأميركية إليزابيث جلبرت والتي ستصدر ترجمتها العربية قريباً عندار طوىبترجمة لأسامة إسبر.
Previous Next

Comments

 

Leave a reply

This blog is moderated, your comment will need to be approved before it is shown.

Scroll to top