"صلاة تشرنوبل".. أصوات متعدّدة تدلي بشهادتها
أوس داوود يعقوب
في كتاب "صلاة تشرنوبل"، الصادر مؤخّرًا عن «دار مصر العربية للنشر والتوزيع» و«مكتبة أطياف» القاهرية، بترجمة عن لغته الأم (الروسية) أنجزها الكاتب والمترجم المصري أحمد صلاح الدين، تروي البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسيفيتش (1948)، شهادات لأكثر من مائة ممّن شهدوا حادثة انفجار مفاعل نووي في منطقة "تشرنوبل" شمالى العاصمة الأوكرانية "كييف"، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، حينها، في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) عام ستة وثمانين وتسعمئة وألف، على الساعة الواحدة وثلاث وعشرين دقيقة وثمان وخمسين ثانية، حين كان ما يقرب من مئتي موظّف يعملون في ذلك المفاعل النووي، بدأت سلسلة انفجارات في إحدى محطّات الطاقة في المفاعل، متسبّبةً بواحدة من أكبر الكوارث الصناعية في القرن العشرين، والتي شملت آثارها الكارثية أكثر من مليوني مواطن، وأنتجت لاحقًا مزيدًا من المصابين بالأمراض السرطانية والتخلف العقلي والاضطرابات النفسية والعصبية والتغيرات الجينية المفاجئة. كما سجّلت مستويات مرتفعة من الإشعاع في البلاد المحيطة، ومنها: ألمانيا، وسويسرا والنمسا وبولندا.
"أصوات من تشرنوبل: التاريخ المحكى لكارثة نوويّة: (Voices from Chernobyl The Oral History of a Nuclear Disaster) عام 1997، يعدّ أشهر كتب "أليكسيفيتش"، وعنه نالت العام الماضي جائزة نوبل للآداب، وهو أول كتاب لها ينقل للعربية، وقد صدر في نسختين: الأولى هي التي بين أيدينا، ونسخة ثانية عن «دار طوى» في لندن، بترجمة ثائر زين الدين وفريد حاتم الشحف.
تمهد المؤلفة لكتابها، الذي برعت فيه بالغوص في أعماق المشاعر البشرية، بتثبيت بعض الوثائق التاريخية عن الكارثة، لتأخذنا بعد ذلك في جوهر الحدث وجعلنا أكثر قربًا من الضحايا لحظة وقوع الكارثة وما بعدها، عبر مرويات من التقتهم من ضحايا، ممن سمّمت "تشرنوبل" حياتهم وذكرياتهم، وليس أرضهم وسماءهم فحسب، لتسجل ما تسميه بـ"التاريخ المغْفل"، أي نفي التاريخ المعلن، أو التصريح بتاريخ موازٍ، تاريخ المعاناة لبشر عاديين جمعت شهاداتهم على مدار سنوات: نساء فقدن أزواجهن، وآباء فقدوا أبناءهم، وسيّدات فقدن أجنّتهن، أمّهات لم ينجُ أبناؤهن من التشوّهات الجسدية والنفسية، شباب وعجائز ونازحون، وفلاحون رفضوا مغادرة أراضيهم، وذوي إعاقات، وموظّفون سابقون في المُفاعل. تقول "أليكسيفيتش": "المصير هو حياة إنسان واحد. أمّا التاريخ، فهو حياتنا جميعًا، وأنا أريد أن أروي التاريخ بشكل لا يضيع فيه عن بصري، مصير إنسان واحد".
إنسان ما قبل وما بعد تشرنوبل ..
تسند المؤلفة تفاصيل الحكاية إلى الشخصيات التي تقارب المأساة من وجهة نظرها، ومن موقعها السابق ورؤيتها الراهنة لها، وكيف أثرت في حياتها، وأصبح ما بعد الانفجار يختلف عما قبله اختلافًا جذريًا، ليصبح هناك "إنسان ما قبل تشرنوبل" و"إنسان ما بعد تشرنوبل"، وتكون تلك الشهادات/ الحكايات وثائق للمستقبل.
لافتة إلى أن الحديث عن تشرنوبل استدارةٌ إلى أحزان الآخرين وحياتهم، وإفساح المجال لهم ليرفعوا أصواتهم بالاحتجاج، وتسجيل شهاداتهم للتاريخ وللمستقبل.
احتوى الكتاب على شهادات كثيرة لشهود عيان على الكارثة النوويّة وما بعدها من آثار مدمّرة، وتناولت كل شهادة ضحية أو متضررًا، ليحكي تجربته الخاصة بلغته الخاصة، دون أيّ تدخل من الكاتبة في ما يقال.
ومن هذه الشهادات نقرأ شهادة زوجة رجل إطفاء فقد حياته في التفجير، تقول إنها لا تدري عما تتحدث، عن الموت أم عن الحب. تحكي قصة حبها لزوجها وقرارها ملازمته في المستشفى في أيامه الأخيرة رغم تحذيرات الأطباء لها، وكيف أن كل مصاب بالإشعاعات يتحول إلى قنبلة بشرية متنقلة يعدي من حوله ويؤثر عليهم بطريقة مدمرة بدوره، وتأثير الحادث عليها وتشتتها بين عالم الحلم والواقع وفقدانها ابنتها بعد ولادتها ثم بقائها رهن صورة زوجها الراحل وذكراه الباقية.
بدورها تقول زوجة أحد العاملين في المفاعل: "الأطفال يرسمون تشرنوبل؛ الأشجار في الصور تنمو جذورها إلى الأعلى، المياه في الأنهار حمراء أو صفراء، يرسمون، ويبكون أنفسهم".
وهناك أيضًا شهادة لأم ولدت ابنتها ككيس لحم مصمت إلا من عينين، لا فتحة شرج، لا رحم لديها، وتعيش بكلية واحدة، كرهت الأم الجنس بعد ولادة الطفلة، تخيلت أن فعل الحب الملوث بالإشعاع الذري، لن ينتج عنه إلا ضحايا مشوهين، فتركت حياتها كلية وعاشت في المستشفى جوار طفلتها، ربما لتكفر عن ذنب الحب الذي اقترفته، ولكن الرعب استبد بها، كيف ستجيب ابنتها إن سألتها في المستقبل لماذا آتت بها إلى الحياة على تلك الصورة، فقضت 4 سنوات تناضل مع السلطات للحصول على ورقة رسمية تثبت أن ما جرى للطفلة ليس إلا نتيجة للإشعاع، فقط لتكون حجة لديها للإجابة عن سؤال ابنتها إذ واجهته، لكنها فشلت في النهاية.
وتقول شاهدة أخرى من ضحايا الكارثة: "عماذا تريديننا أن نتحدث؟. عن الحب أم الموت؟. لأن كليهما صارا واحدًا!. تم طرد الحيوانات وقتلها، تم حشر الناس وإخلاؤهم، تركت البيوت والأسواق والمطاحن كما هي، على حالها، بأثاثها وعدتها، كان ممنوعًا أخذ أي ذكرى كانت، ومن ثم، هاجم العدو كل شيء، أفرغ كل شيء من معناه، وفي النهاية لم يعد للنساء رجالهن، ولا أحبابهن، كما سرق من الرجال طريق الرجوع، آخذًا حيواتهم ببطء، لم يقاوم أحد، بل إن السلطات طالبت المنكوبين بالصمت، حيال هذا العدو، وفصلت المصابين عن لحظاتهم الأخيرة مع من يحبون، عزلتهم في المشافي، لا لتنقذهم، فقد صار الفكاك مستحيلًا، بل لتتفرج إلى العدو ينهشهم، العدو الذي لم يره أحد، لم يستطع أحد الانتقام منه، أو حتى مواجهته في أي مكان. كان من المؤلم أن يستمر وجود هذا العدو ومآسيه في الذاكرة حتى اليوم، مرافقًا للصور الأخيرة المشتركة مع الضحايا وأولئك الذين ما زالوا يتذكرون. من المؤسف أنهم استغرقوا بضعة أيام حتى يخبروا النساء بأن هذا العدو ليس سوى مادة مشعة سامة وشديدة العدوى، لا يمكن رؤيتها، ولا الإحساس بها، ومن المستحيل إيجاد شكل لها، لكنها تمكنت من احتلال البيوت وطرد الناس، تمكنت من قتل الرجال، وتفريق العائلات.
تضليل الناس في البلدان الستالينية ..
تشير صاحبة "نهاية الإنسان الأحمر" في كتابها، إلى أن الضحايا الذين سجّلت شهاداتهم في مواجهة سلطة النسيان، طلبوا منها بإلحاح أن تكتب، مكرّرين جملة لا تتغير: "لم نفهم كل ما شاهدناه، لكن فلتبق شهادتنا تلك. قد يقرؤها أحد ويفهمها في ما بعد، من يأتون بعدنا"، مبينة أنها لم تكن تعجّلهم على الكتابة بلا سبب، لأن كثيرين منهم لم يعودوا في عِداد الأحياء، لكنهم تمكّنوا على الأقل من إرسال إشارة ربما تساعد الأجيال الجديدة على الفهم. وعلى كثرة الشهادات الذي احتوى عليها الكتاب (107 شهادات من أصل خمسمائة سجّلتها المؤلفة)، إلا أنه نادرًا ما تتشابه تفاصيل شهادة مع أخرى، وكأن كل شهادة بمثابة قصة قصيرة مدهشة، مأساوية، اعتمدت المؤلفة في صياغتها على التداعي الشفاهي للسارد عبر لغة تبرز: صوته، لعثمته، خوفه، توتراته، ثقته، وكأنك تسمع الشهادة من فم قائلها لا تقرأها.
وفي متن الكتاب نقف عند حديث "أليكسيفيتش"، عن أساليب السلطة السوفياتية في تضليل الناس، وإيهامهم أن النظام قوي لدرجة لا تستطيع أي كارثة أن تؤثر فيه، تقول: "إن البلاد لم تكن مستعدة للكارثة النوويّة"، وإنهم كانوا أبناء زمنهم، ووثقوا بما علموهم إياه بأن المحطات النوويّة السوفياتيّة هي أكثر أمانًا في العالم، ويمكن بناؤها في الساحة الحمراء. مشددة على السؤال عن المذنبين، لا أولئك الذين تمت محاكمتهم محاكمة صورية، ليتم التعتيم على الكارثة، والعمل بطريقة دعائية بائسة لتحويلها انتصارًا للقوات الحربيّة السوفياتيّة في فترة الحرب الباردة. وتصف مفارقات من تغيير تفكير الناس. وهي لا تخفي حنقها على حال الإنسان في دول الاتحاد السوفييتي سابقًا، حيث رموا الناس في آتون الكارثة، "مثلما رموا الرمل على المفاعل". لقد استخدموا الناس مثل رجال آليين. ولعل تلك الجرائم الفادحة، هو ما جعلها تقول إثر إحدى المحكامات التي تعرضت لها بسبب كتابها "فتيان الزنك" (1991): "إن الكتابة في بلادنا التعيسة هي مصير أكثر من كونها مهنة".
في تشرنوبل كانت الكارثة مروّعة، حتى أن "الاتحاد السوفييتي" حاول حينها إخفاء كل المعلومات المتعلّقة بهذا النوع من الانفجارات، اختفت من المكتبات الكتب التي تتحدث عن "هيروشيما" و"ناغازاكي"؛ لا نصائح، لا معلومات، لا صحافة، والسلطة لا تقول شيئًا. الأطباء صامتون، ويظهر هذا بوضوح في شهادة رجل فقد ابنته، ويقول إنها ماتت في السابعة، وهم يريدون منه أن يصمت وينتظر.
وتذهب "أليكسيفيتش"، إلى أن هذه الكارثة النوويّة، ليست أزمة الإنسان الروسي أو الأوروبي وحده، وإنما هي أزمة العالم كله، لذا فهي تصفه بـ"دفتر المستقبل"، وإن كان التوصيف الأصلح لذلك الكتاب أن يكون "دفتر الديمومة"، فهذا السجل الشفاهي المرعب، لا يحكي فقط عن مأساة تلك الحقبة، وإنما يبدو كسجل شفاهي عام عن الإنسانية. وهو ما يؤكده مترجم الكتاب أحمد صلاح الدين، الذي يرى أن "المطلع على الكتاب يستمتع بقراءته، لحكايات داخل الزمن وخارجه، حيث يرى الإنسان نفسه في كل حكاية منها، تنتقل به بين حالات شديدة التباين، فمن دمعة حزن، إلى ابتسامة أمل، أو ضحكة تملأ الفضاء اليائس، لحظات تأمل عميق، فراق، حب، خيانة". مضيفًا: أن "الكتاب عبارة عن حكايات الإنسان الصغير في عالم واسع يقرر فيه بعض الأشخاص مصير البشرية، وفي النهاية يدفع هو الثمن وحده وينجو الفاعل الحقيقي، إنها حكايات الوحوش التي يخترعها الإنسان نفسه، حتى المدينة الفاضلة بدت كأنها هي الأخرى وحش من هذه الوحوش".
وتُعرفنا "أليكسيفيتش" من خلال شهادات الضحايا التي سجّلتها، أن القمع وانعدام الشفافية، واحدٌ في جميع الأنظمة الديكتاتورية، وأن الإحساس الأهم الذي طغى على المواطنين هو أنهم من دون حماية، وأن شخصين أو ثلاثة يقرّرون مصير ملايين البشر، الذين تحوّلوا لحظتها إلى إنسان واحد، بذاكرة واحدة، ومصير متساوٍ حتى في الشعور بالاغتراب عمّن حولهم، موسومين في كل مكان يُنظر إليهم بارتياب وخوف، ويعاملهم الناس بقلقٍ وعدم ترحاب، حتى أن ذويهم كانوا ينظرون إليهم كنظائر مشعة، لا أكثر ولا أقل، وكثيرًا ما أُغلقت أبواب في وجوههم. ربما كان القمع دافعًا لدى كثير من الضحايا للتحدّث إلى "أليكسيفيتش"، التي ترى أن تبدد الوعي وتشتته هو ما يُنقذ الإنسان في الحروب، وأنه يجري – في دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي - تحويل ذلك الإنسان، بصورة إجرامية، إلى (برغي في ماكينة السياسية). متسائلة عن إخفاء السلطة السوفياتيّة لكثير من المعلومات، ودأبها على التضليل، ودفع الناس إلى نوع من الانتحار الجماعي.
ونقرأ من قصص الشهود/ الضحايا، قصة عائلة طاجكستانية، فضلت النزوح للعيش في أرض المفاعل المهجورة والملوثة كلية بالإشعاع، عن المكوث في بلدهم المشتعل بالحرب الطائفية، تحكي إمرأة منها، وكانت تعمل ممرضة، أنها بينما تساعد إحدى النساء على ولادة طفلتها - في طاجكستان- دخل مسلحون عليهم حجرة الولادة، فسألوا المرأة التي خرج وليدها لتوه إلى الدنيا، إلى أي الجهتين تدين بالولاء؛ المعارضة أم الموالاة للنظام، فسكت الكل لم ينطق أحد، فأخذ المسلحون الطفل المولود وألقوا به من النافذة. فيما تقول ربّة العائلة ذاتها عن حياتها في طاجكستان: "كنت أخرج من البيت على الدوام بثياب نظيفة - مغسولة، بلوزة، جيبة، ملابس داخلية، ربما تموت فجأة! (...) اليوم أمشي في الغابة – أرض المفاعل النووي وحدي ولا أخشى أحدًا. (...) الأرض لا تخيف، وكذلك الماء.. إنما أخشى البشر.. بإمكانه أن يشتري مدفعًا رشاشًا من السوق بمائة دولار".
وبأسى شديد تقول "أليكسيفيتش": "إن لأبطال تشرنوبل نصبًا تذكاريًا واحدًا، هو التابوت المصنوع يدويًا، الذي دفنوا فيه النار النوويّة، إنه أهرام القرن العشرين". مؤكدة أن "مواطني روسيا البيضاء اليوم صناديق سود حية، تسجل المعلومات للمستقبل، وللجميع". وأن "الفترة ما بين حصول الكارثة وبداية التحدث عنها كانت فترة توقف مؤقت، لحظة بكَمٍ علقت في ذاكرة الجميع".
ورغم أن قضية الكتاب الأولى هي ما بات يعرف بـ"إنسان تشرنوبل"، إلا أن الكاتبة تصور "انتقال حال البلدان الستالينية من الصلاة لماركس إلى الصلاة للدولار".
حافرة بقلمها بعمق في مأساة جماعية كبيرة، شملت الإنسان والمكان والزمان، ليحضر في خلفية أصوات الضحايا التغير السياسي الذي شهدته تلك البلدان، كاشفة كيف سرعت الكارثة النوويّة في تفكك "الامبراطورية الستالينية"، ربما ليصح تشبيه المؤلفة "التشرنوبليين" بأنّهم: "حتى بعد موتهم يضيئون"، ليكون تشبيهها تشبيهًا وظيفيًا يكاد يكون سمة لأدبها، وهي تحاول أن تقول لنا: إن "مأساة الإنسان من اختراع الذاكرة".
كتابة تحتاج لصك مصطلح أدبي جديد ..
إن ما يميز الكتاب الذي صدر للمرة الأولى في عام 1997 - بحسب النقاد -، هو اعتماده على الإنسان/ الضحية بوصفه الراوي الحقيقي والوحيد للحدث، إذ لا نقرأ هنا مادة إخبارية منتجة ضمن آليات إعلامية خاضعة لسياسات التحرير، وإنما يطالعنا صوت الضحية؛ نبضاتها وانفعالاتها وخساراتها الشخصية.
أما تقنية الشهادات الشخصية التي لجأت إليها صاحبة "وجه غير أنثوى للحرب"، لسرد حادثة تشرنوبل ووجهة نظر من شهدوها، في لحظات الانفجار وما بعدها، فقد وجدها الكثيرون أقرب للعمل الصحافي منها إلى العمل الروائي، إلى جانب التعامل مع التاريخ والنصوص الشخصية - التاريخيّة بوصفها بعيدة عن التخيّل، لتكون المرجعية الواقعيّة المهمشة والمخفيّة هي أساس العمل لديها، بعيدًا عن التقنيات والتجريب الروائي. ولكن رغم ذلك لايخفي المترجم أحمد صلاح الدين، مخالفته لآراء النقاد الذين يرون أن صاحبة "فتيان الزنك" تكتب ما يعرف بالرواية الوثائقية، وأن نثرها روائي يقدم الحقائق والشواهد المختلفة في إطار فني. ويحلل المواد الوثائقية ويستخدمها في صياغة أدب خالص في النهاية. معتبرًا أنه - وبعد دراسة متأنية لأدبها – لايوجد مصطلح أدبي يناسب منجزها، كما أن وضع كتابتها بين التوثيقية والصحافة السردية فيه ظلم كبير لها، وانتقاص من براعتها الفنية الكبيرة. ليؤكد أن مؤلفاتها بحاجة لمصطلح جديد يناسب طريقتها في الكتابة.
أما "أليكسيفيتش" فتقول عن أعمالها في حوار أجري معها منذ عدة سنوات: "كنت أبحث عن جنسٍ أدبى يسمح لى بمقاربة رؤيتى للحياة بأفضل ما يمكن. فاخترت أن أكتب أصوات الناس واعترافاتهم". وتضيف: "لا أهتم بتسجيل التاريخ الجاف وسرد الأحداث والوقائع، أنا أكتب تاريخ من المشاعر الإنسانية، ما ظن الناس وما فهموا وتذكروا خلال هذا الحدث". لتؤكد أن "ما أكتبه ليس أدبًا، إنه وثيقة. ما هو الأدب اليوم؟ من بإمكانه أن يجيب على هذا السؤال؟ نعيش أسرع من أي وقت مضى. يمزق المحتوى الشكل، يكسره ويغيره. كل شيء يفيض متعديًا شواطئه، الموسيقى، الرسم – حتى الكلمات في الوثائق تهرب من حدود الوثيقة. لا حدود بين الحقيقة والتلفيق، أحدهما يتدفق نحو الآخر".
ومهما اختلفت الآراء في كتابات النوبليّة البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسيفيتش، إلا أن الثابت أن كتاب "صلاة تشرنوبل"، الذي صمم غلاف نسخته العربية الفنان المصري محمد سيد، يُعد رواية ضخمة متعددة الأصوات لإنسان الكارثة، تمثل أدبًا خاصًا متمايزًا في تصنيفه عن الأشكال الأدبية المطروحة، أو كتابًا تاريخيًا يحكي بؤس الإنسانية، لكن شهاداته التي يضمها بين صفحاته، هي – بلا شك - إحدى المنجزات الفنية التي يضمها السجل الإبداعي للنصوص الأكثر رعبًا على المستويين الجمالي والإدراكي.
المترجم والكاتبة في سطور ..
أحمد صلاح الدين، كاتب ومترجم مصري، ولد بالقاهرة في عام 1973، ودرس اللغة الإنجليزية وآدابها بقسم اللغة الانجليزية، جامعة عين شمس، كما درس اللغة والأدب الروسي بجامعة رودين - موسكو.
أما سفيتلانا أليكسيفيتش، فهي صحافيّة تحقيقات. ولدت عام 1948 فى أوكرانيا لوالد بيلاروسي وأم أوكرانية، وسرعان ما عادت مع والديها إلى بلاروسيّا بعد انتهاء والدها من الخدمة العسكرية.
بعد الانتهاء من الدراسة الثانوية عملت كمعلمة وصحفية، ودرست الصحافة في جامعة "مينسك"، بين عامي 1967 و 1972. وعقب تخرجها عملت في جريدة محلية في "بريست" بالقرب من الحدود البولندية، بسبب آرائها المعارضة.
ويعدّ كتابها "أصوات من تشرنوبل" أشهر كتبها، ومن أعمالها: "وجه غير أنثوى للحرب"، الذي أعتبر براهين على مئات النساء المحاربات في الحرب العالمية الثانية. وقد صدر الكتاب بعد سنتين من كتابته وبعد أن قصت الرقابة الكثير منه. ثم أعيد نشره بعد إضافات واستعادة ما حذفته الرقابة بعد عشرين عامًا. كما صدر لها كتاب "فتيان الزنك" (رواية وثائقية عن الحرب الأفغانية) 1991، نقلها إلى العربية مؤخرًا عبد الله حبه، وصدرت عن "دار ممدوح عدوان" في دمشق.
صُنّف كتابها الأول "لقد غادرت قريتي" ككتاب "معادٍ للشيوعية" وتمّ إتلافه من قبل السلطات السوفيتيّة!. ولها كتاب بعنوان: "نهاية الإنسان الأحمر"، نالت عنه جائزة "ميديسيز للدراسات" في فرنسا، كما وضعته مجلة "لير" المتخصصة بالكتب، كأفضل كتاب لعام 2013. وحصلت " أليكسيفيتش" كذلك على جوائز كثيرة منها جائزة "هيردر" عام 1999، وجائزة "دائرة نقاد الكتاب الوطني" عام 2005، وذلك تقديرًا لكتابها "أصوات من تشرنوبل"، وجائزة "السلام للكتّاب الألمان" عام 2013.
تركت سفيتلانا أليكسيفيتش بلدها عام 2000، ولم تنشر كتبها في بيلاروسيّا. وعاشت في باريس وغوتنبيرغ. وفي عام 2011، عادت إلى مينسك. وهي تكتب باللغة الروسية ولكنها لا تعتبر نفسها كاتبة روسية أو بيلاروسيّة. تقول: "أود أن أقول إنني كاتبة من تلك الحقبة، الطوباوية السوفييتيّة، أكتب تاريخ تلك الطوباوية في كل كتاب من كتبي".
Comments