عطب الذات السورية، قصة ثورة لم تكتمل
غسان ناصر
«عَطَب الذَّات.. وقائع ثورة لم تكتمل.. سورية 2011 - 2012» هو عنوان كتاب صدر مؤخرًا عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، في بيروت، للمفكر والأكاديمي السوري، الدكتور برهان غليون، (أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بالعاصمة الفرنسية باريس).
الكتاب، يمكن اعتباره شهادة/وثيقة تاريخية أشبه بالمذكرات لأول رئيس للمجلس الوطني السوري، الذي تأسّس في الثاني من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2011 في اسطنبول، ففيه يكشف غليون كيف حاولت النخب السورية كسر قيود الاستبداد والطغيان الوطني لبناء سورية الجديدة، وكيف عجلت بعض هذه النخب في ضياع الثورة السورية ووأد حلم السوريين المنتفضين ضدّ حكم الرئيس الوريث، في بناء دولة مدنية تكون لكل السوريين على حدٍّ سواء.
يتضمن الكتاب إطلالةً على لحظة الثورة السورية، ومقدماتها وجريانها، من منظور نقدي مباشر، يطرحه المؤلف، بشأن الأداء العام لشخصيات وقوى وفاعليات وفصائل، وسياسيين وناشطين ومثقفين في المعارضة السورية.
يفصل غليون في 528 صفحة من القطع المتوسط، وقائع ومجريات الحدث السوري المشتعل منذ بدايات ثورة السوريين، وبدء المواجهة الأمنية والقتل والتدمير، وتصاعد المظاهرات، والنشاط المحموم المليء بالاستقطاب والمُحاصصة وعدم الثقة لتكوين واجهة سياسية للثورة، فبدايات العسكرة والتسلّح والانشقاقات المتوالية من جيش الأسد، ثم تكوّن الفصائل العسكرية تحت لافتة "الجيش الوطني الحر"، وما أعقبها من نشوء الفصائل الإسلامية التي امتدت لأسلمة غالب النشاط الثوري المسلّح.
كما لم يفت غليون تقييم المواقف الدولية والتدخل الأجنبي في الشأن السوري-بروح نقدية تحليلية.
ويعرض صاحب «مجتمع النخبة» أيضًا، كيف تكون المجلس الوطني السوري، والظروف التي أحاطت بقيامه وتفاصيل رئاسته، كأول رئيس له، ثم استقالته بعد ذلك، مبرزًا الأسباب التي أدت إلى الاستقالة.
"عَطَب الذَّات" الذي يقصده ويحكي عنه غليون بين دفتي الكتاب، والذي يراه "آفة الثورة السورية"؛ هو التعطّش للمناصب، والنرجسية المفرطة، واللهث خلف المكاسب الذاتيّة والفئويّة، وغياب الإستراتيجيّة الجامعة والمشروع الوطني، وتقديم مصالح الأحزاب والجماعات على مصالح الثورة والشعب؛ وهو هنا يسمّي الأشياء بأسمائها، ويشهّر بكل من تمثّلت فيه تلكم الأعطاب، بالاسم والكنية.
خفايا البيان الأول وحرب الروس..
يرصد القارئ في الكتاب عشرات المواقف والقصص المدهشة والمهمة التي دوّنها غليون في كتابه، وهي تستحق أن تُروى، إمّا لما تضمنته من مفارقة أو لغرابتها وفرط وضوح أصحابها أو لانتهازيتهم؛ من ذلك ما ورد في سياق حديثه عن توقيع بيان "إعلان دمشق للتحول الديموقراطي"، الذي شارك في إعداده وصياغته المعارض السوري الشهير رياض الترك.
يقول غليون: "بعد مداولات طويلة، أرسل لي رياض الترك النص الأخير للبيان المزمع إصداره للإعلام عن ولادة التجمع الجديد. ودهشت لفقرة وردت فيه تقول إنّ الإسلام هو ديانة الأغلبية من السوريين وينبغي أن يحظى باهتمام خاص. قلت لرياض: هذه الفقرة غير ضرورية ومسيئة للبيان، إذا كان الإسلام دين الأغلبية فهو الدين المهيمن على الفضاء الثقافي والروحي، ولا داعي لتأكيد ما هو واقع، بالمقابل ما كان ينبغي عليكم أن تعيروه اهتمامًا أكبر هو تطمين الجماعات الدينية الأخرى على موقعها لا العكس. لكنني طالبت بأن تُحذف الفقرة تمامًا وإلا سأرفض التوقيع على البيان/ الإعلان (...) وفي انتظار جوابه، بعد المشاورات مع بقية الأطراف، اتصلت بصدر الدين البيانوني، وكان في موقع المرشد لجماعة الإخوان المسلمين، وسألته إذا كانوا مصرين فعلًا على هذه الفقرة التي تسيء للبيان والإعلان ومشروع العمل الديمقراطي المعارض معًا. قال: أبدًا، لسنا نحن الذين وضعناها ولا نطالب بوجودها ولا نتمسك بها. نقلت ذلك إلى رياض، الذي أجابني أنّهم لا يستطيعون حذف الفقرة لأنّ الوقت قد تأخر. قلت: هذه ذريعة واهية، الخطأ ينبغي أن يُصحَّح، ولا شيء يدعو للعجلة من أجل يوم إضافي. قال مباشرة: جورج صبرا هو الذي وضعها وهو مُصرٌّ عليها. فأعلمته بأنّني أرفض التوقيع على بيان إعلان دمشق الذي كنتُ من أول الداعين له والضاغطين لإصداره".
وعن الدور الروسي في القضية السورية، يبيّن لنا الأكاديمي السوري المعارض، أنّه وبعكس سياسة الولايات المتحدة المتخبطة والانكفائية معًا تجاه الأزمة السورية، كانت سياسة الاتحاد الروسي بالغة الوضوح والشفافية.
يقول: "لم تغيّر روسيا موقفها من دعم النظام، ولا رفضها فكرة الثورة الشعبية. وقفت منذ البداية في مجلس الأمن، من دون تردد ولا مساومة، ضدّ استصدار أيّ قرار يسمح للمجتمع الدولي أن يتخذ موقفًا عمليًا ضدّ المذابح التي بدأت في سورية، مع بداية التحرّكات الشعبية، وغطت على التدخل العسكري الإيراني، وتحالفت من دون أن يرفّ لها جفن مع المليشيات الطائفية. وزوّدت جيش الأسد بالمستشارين العسكريين والأمنيين وبالسلاح والذخيرة. وعندما شعرت أنّ النظام أصبح في خطر، بعد أن هُزِمت المليشيات، وجيش النظام في أكثر المناطق السورية، على يد الفصائل المسلحة للمعارضة، دخلت بقوة أكبر، واستلمت قيادة العمليات العسكرية، واستخدمت قواتها الجوية على نطاق واسع للفتك بحاضنة المعارضة وفصائلها، وقادت عملية تفكيكها، من خلال الجمع بين التهديد بالدمار الشامل أو القبول باتفاقات خفض التصعيد، واللعب على تناقضات الفصائل، وشقّ صفوفها، وترويضها بالوعود الكاذبة، بحماية من يستسلم منها، قبل أن تنقض عليها في مرحلة تالية".
في هذا السياق، يؤكد غليون أنّ موسكو هي التي لعبت الدور الحاسم في الحرب السورية، وأنّها كانت الرابح الرئيسي حتى الآن منها، على الرغم من أنّ الجهد الأكبر في دعم مجهودات الحرب كان من نصيب إيران. "بل ليس من المبالغة القول: إنّ حرب سورية التي دامت ثماني سنوات كانت، بالدرجة الأولى، حرب روسيا لكسر جدار العزلة والتهميش الذي بُني من حولها، بعد مرحلةٍ أولى بدت واعدةً في تجاوز منطق الحرب الباردة نهائيًا، والدخول في عالمٍ جديدٍ قائم على الاعتراف بالتعدّدية القطبية وتبادل المصالح".
مراجعة نقدية كاشفة في انتظار ثورة ثانية..
يستعرض صاحب «المأساة العربية: الدولة ضدّ الأمة» في متن الكتاب، المشهد السياسي في سوريا خلال الستينيات والسبعينيات، وما أعقبها من أحداث دموية ومواجهات بدأت في عام 1979 وانتهت بمجزرة حماة العام 1982، ثم فترة هدوء نسبي امتدت حتى موت حافظ الأسد، وما تلاها من نشاطات "ربيع دمشق"، ثم "إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي"، وانقسامات الوسط السياسي في سوريا، وصولًا للحظة الربيع العربي وبدء الثورة السورية، والتي تمثل المادة الرئيسية لهذه الشهادة/المذكرات.
يكشف لنا غليون بالتحليل والبحث، "دور الأسد الأب في تخريب البلاد وكيف عمل على نقل الثروة العامة من ملكية الدولة الاسمية إلى ملكية المسؤولين وأبنائهم، ما أدى إلى نشوء أكبر اقتصاد مافيوي، أفضل ما يناسبه من الوصف هو (رأسمالية العائلة)، بمعنى العشيرة، قائم على تجيير الدولة لتسهيل جمع الثروات في أيدي المقرّبين والأنصار، وإفقار المجتمع وتجريده من إمكانات تطوير نشاطه وإنتاجه. وهذا مما لا يمكن تحقيقه من دون بث الفوضى، وتعطيل القوانين، واستباحة الحقوق، والعبث بقوانين السوق، لمصلحة فئات معينة. ويصعب، في مثل هذا (الاقتصاد)، أعني اقتصاد النهب، تشجيع الاستثمار، وتحفيز التنمية، وتشجيع تكوين الموارد البشرية، والعناية بتطوير البحث العلمي والتنمية وتشجيع تكوين الموارد البشرية، والعناية بتطوير البحث العلمي والتنمية. بمقدار ما تحوّل الاقتصاد إلى إقطاعاتٍ خاصة لأهل السلطة والحكم، تحوّلت البلاد إلى مزرعة أو مجموعة مزارع شخصية، وسيطر منطق الريع على منطق الاستثمار، وفقد الاقتصاد طابعه الوطني وديناميات تنميته أيضًا، وحوافز العمل للرد على حاجات إعادة الإنتاج الاجتماعي، وتأهيل القوى العاملة، وضمان أيّ حدٍّ من التفاهم أو العقد الاجتماعي...
إنّ كل هذا تم تحت غطاء التحرّر من أيديولوجية الاشتراكية واقتصاد الدولة والقطاع العام الذي يعاني الإفلاس، وباسم الانفتاح على العالم، وتبنّي قيم النظام النيوليبرالي، وجذب الاستثمارات وتشجيع الأعمال".
يؤكد غليون في هذا السياق، أنّه "ليس هناك شكٌّ في أنّ انتزاع الطبقة المفترسة الجديدة من رجال الأعمال الشباب الذين هم في الواقع أقرب إلى رجال المافيا، الأسبقية والكلمة الأولى في تقرير مصير السياسات والنظام من تلك الطبقة البيرقراطية الفاسدة التي اعتمد عليها نظام الأسد الأب، وخدمته حتى اللحظة الأخيرة، قد زعزع توازن النظام وزاد من هشاشته وقابليته للتصدّع والكسر". لافتًا إلى أنّ "هذا ما كان على المعارضة أن تستفيد منه لو أنّها خففت قليلًا من رهانها على التدخل الأجنبي، أو على السلاح لمصلحة العمل في السياسة".
لقد سلط صاحب «اغتيال العقل» منذ الفصول الأولى من الكتاب، الأضواء على حراك الشعب السوري السلمي، الذي حرم من الحرية ومعنى القانون والحقوق الإنسانية عقودًا طويلة، تارّة باسم الاشتراكية، وأخرى باسم النضال ضدّ الإمبريالية والصهيونية، وثالثة باسم حماية الشعب من التطرّف والإرهاب متتبعًا برؤية تحليلية كيف أصبحت سورية خلية نقاشٍ سياسي واحدة، كما لو أنّ المجتمع السوري قد وُلد من جديد، أو اكتشف ذاته كمجتمع سياسي.
في الختام، يمكننا القول: إنّ كتاب «عَطَب الذَّات.. وقائع ثورة لم تكتمل.. سورية 2011 - 2012» ليس مراجعة نقدية لثورة أعلنت هزيمتها، إنما هو -من منظور غليون-، مقدمة لثورة ثانية: "ثورة الوعي" في مواجهة تزييف الوعي والرواية، ذلك أنّه في ضجيج الحرب: "ما كان من الممكن استعادة المبادرة الفكرية قبل أن يتاح للموتى أن يدفنوا موتاهم".
Comments