الرعب كقاتل درامي قراءة في رواية "الجنون طليقاً" لواحة الراهب
الرعب كقاتل درامي
قراءة في رواية "الجنون طليقاً" لواحة الراهب
عمر الشيخ
جريمة في مشفى للأمراض العقليّة، قُتلتْ فيها إحدى النّزيلات أثناء تصوير فيلم. على هذا النحو تبدأ رواية "الجنون طليقاً الصادرة في بيروت عن- دار نوفل 2019" للكاتبة السورية "واحة الرّاهب" (1964)، والّتي تقترح فيها الكاتبة دراما جنائيّة تمزج فيها بين أزمات إنسانيّة راهنة ومختلفة، ووقائع متوتّرة، ضمن مناخ ذي محيط حربي وفوضويّ، فرضه الحدث السّوري، فيما ستكون إحدى مناطق ريف دمشق هي المسرح المُفترض للحكاية، حيث يقع ذلك المشفى.
منذ السّطور الأولى تضعنا الكاتبة في مشهد ترقّب وأسئلة، ثمّة مُحقّق يحدق في جثّة امرأة مقتولة داخل إحدى غرف المشفى، الضحيّة إحدى المريضات، قُتلت من أجل حصول "الضيوف" على تشويق مفترض للعبة فنيّة تعكس مدى العنف الّذي وصلت إليه الحالة هناك خلف أسوار البلاد المُستعرة بالموت والصراع.
نعلم فيما بعد أنّ هذا المشفى يشكل "سجناً" بالمعنى الإجباريّ بزعامة كوادره الإداريّة الرسميّة، سجناً للنساء اللّواتي تم التعامل معهنّ وفق منظومة فساد سياسيّ واجتماعيّ وأخلاقيّ، تستغل المرأة في سورية وتسلّعها وتضعُها تحت وصاية ذكوريّة خطيرة في معظم بقاع البلاد. نساء من أعمار مختلفة، تم اتهامهنّ بأمراض عقليّة كحجّة لزجهنّ في مكان "يتم توحيد إيقاع الجميع فيه على نغم واحد لم يسبق أن اخترق" (ص55)، وهذا الاختراق وهو لعبة التشويق تلك الناتجة عن دخول مجموعة عمل سينمائيّة تسعى لصناعة فيلم في المشفى للكشف هناك عن العوالم الاجتماعيّة وتداعياتها في ظل الحرب، وأثناء التّحضيرات لتصوير المشاهد، تدخل الممثلة بطلة الفيلم إلى غرفة تجمّعت فيها نزيلات المشفى المتبقيات، لتلتقط الممثلة بعض التفاصيل منهنّ لأجل بناء مكنونات الشخصيّة السينمائيّة الّتي ستلعبها في الفيلم.
يقع المحقق نفسه على نص سيناريو الفيلم المُزمع تصويره، بالقرب من جثّة المرأة المقتولة! يبدأ بالقراءة، ونصل في سلسلة الأحداث إلى بداية خط الحكاية، الّذي يقوم بإعادة توليف شخصيات حقيقيّة من المشفى من خلال شخصيات مبتكرة في سيناريو الفيلم، ولكن التماهي مع الأحداث وفضح الأسباب الّتي أوصلت النسوة إلى هذا "المعتقل" جعلا الخيوط تتشابك أكثر لتكوّن معظم أحداث المشفى المخفية، وهي وقائع مكتوبة في نص الفيلم، وذلك بعد ما كُشف من نقاشات بين الممثلين وفريق التصوير وإدارة المشفى والمريضات.
تحاول "الرّاهب" ابتكار أحداث تصاعديّة مفاجئة، تدخلها في حوارات أبطال الفيلم عبر القصة الخياليّة مع أحداث تكشف بالتدريج ظهور قاتل متسلسل في موقع التصوير-الواقعي. وتدفعنا الروائية في تحليلها لطبيعة الشخصيات إلى تكوين اعتقادات مسبقة عن هويّة القاتل وأسباب الجرائم تلك، إذ "لا حدود لتلاقح المخيّلة مع الواقع" حسب ما يدور في وسط الرواية تقريباً من حديث بين كاتب سيناريو الفيلم ومخرجه.
وعلى مقربة من المشفى، تدور المعارك الّتي تقطع الطرقات فجأة، وتجبر مجموعة العمل وكوادر المشفى والنزيلات على العيش ضمن حدود المشفى وتصوير المشاهد في ظروف قاسية وشحّ في الموارد الغذائيّة، كأنّهم قرب خطوط تماس ساخنة، إذ بات ما يحدث من مفاجآت خياليّة يصبّ في خدمة هذا السيناريو الجنوني، الباحث عن مقاربة فنيّة دراميّة لواحدة من أكثر البيئات السّوريّة انغلاقاً وهو مشفى الأمراض العقلية.
إن التمازج في متن الرواية بين ما هو واقعيّ وما يفترض أنّه أحداث دراميّة، جعل من تطور الشخصيات والحدث، سرداً متوازياً ومخيفاً من أحلام اليقظة، إذ يحكم الرعب كلّ شيء، ويعيش البعض محاولين إثبات جدارة خبرتهم في الحياة من خلال التفكير المشترك في حلّ الصعوبات الّتي تصادفهم، فيما تتجه بعض شخوص الرواية إلى الشكوى من معاناة سابقة أو كشف ما لتبعية إشكاليّة تساهم في إخفاء الحقيقة.
هناك حكاية متداخلة لا تعرف كيف تجد مفاتيحها، فالجميع يلعب لعبة المفاجأة، لكن القاسم المشترك هو محاولة تصوير الرعب والموت والمعارك العسكرية والوحشيّة على أنها أمور عابرة تتعايش مع المجتمع السّوري من بعيد لبعيد، إنّما حين يكون الموت بالقرب منّا تماماً، فسوف يكون ذلك جنوناً طليقاً!
تحاول "الراهب" تقديم قراءة في ذاكرة الشخصيات لتضعنا أمام مقاربة نفسيّة لتصرفات معظمها، الخارجة من انغلاق ذاتي وصدمات في ماضيها، وربما من فصام عام أحياناً، أو وضوح وبساطة وإنسانية مباشرة في أحيان أخرى، ولكن الجميع في جحيم الحرب يصبحون أشخاصاً مختلفين، وهذا ما لاحظناه من تتبع خطوط الحكاية وكشف خواتمها المفتوحة على الاحتمالات.
تزداد وتيرة جرائم القتل في الرواية، وتضج في رأسنا التساؤلات عن الهدف الحقيقي لذلك، ثم نعلم أن كاتب السيناريو هو الفاعل في النهاية! وقد أصيب بلوثة إجراميّة حولته إلى قاتل متسلسل إلى أن تم الإيقاع به من خلال تفاهم بين بطل وبطلة الفيلم المفترض، لكن أسباب تحوله إلى مجرم فجأة، تعود إلى ما يعيشه في الواقع ضمن موقع التصوير وتحولات الماضي الأخيرة التي لعبت الأزمة السورية دوراً مؤثراً وخطيراً فيها.
نشاهد تجسيداً في النص لحكاية ملفتة لا تخلو من الدهشة، بينما على مستوى المعالجة كانت تجربة جمع خيوط الرواية مشغولة بقالب بسيط أدبياً يتماشى وتجربة "واحة الراهب" الفنانة والمخرجة، في بناء تخيّل خاص للأحداث والحوارات من وجهة نظر تمثيلية فنية، بالتالي يمكن أن تصل بسهولة وتشويق للقارئ.
كما تحضر الحرب السّوريّة بأحداثها وأطرافها وتقسيماتها بقوة، وتنحاز الرواية على ما يبدو للشارع المُسالم ضدّ العسكر في كلّ مكان، فيما تغوص في البنية الأمنيّة العنيفة للسلطة التي لا تستثني حتّى المرضى والضعفاء من الأفعال غير الإنسانية.
الجنون في كل مكان خلف جدران المشافي العقليّة وغير العقليّة... وفي عمق المؤسسات الحكوميّة والخاصة الناطقة باسم السلطة منها والمشبّهة بالحكوميّة، في الشوارع وفي البيوت والمدارس والجامعات... وفي القانون نفسه أمام أعين الناس في سورية. إنّ الجنون، هو غياب الوعي والتصرف بلا إدراك للمخاطر العامة والمدمرة للحجر والبشر والفكر، والجنون الكلي هو دفع الناس إلى محاكم عسكرية تشكك بقدراتهم العقلية لأنهم لا ينصاعون، فكيف إذا كان جلّ هؤلاء الناس من النساء؟
تؤكد الرواية على رفض الذين يحاكمون ويوزعون صكوك العقلانية على البشر وهم يجلسون فوق ركام البيوت ودمار النفوس، يديرون حرباً جنونية وذلك تماماً ما يحفّز الرعب والعنف، كأنّه يأخذ شكل قاتل بدرجات مختلفة. وهكذا يصبح الرعب في رواية "واحة الرّاهب" قاتلاً دراميّاً يشكل صورة في ألبوم البلاد الغارقة في حرب داخلية وخارجية مستمرة.
Comments